في شرحه لشعر أبي نواس، يعرج طه حُسين على الوضع الاجتماعي للنساء في العصر العباسي، وكيف تغيرت النظرة للإماء والجواري واستحوذن على مكانة غريبة مختلفة عنهم في المجتمع الإسلامي على حساب النساء الأحرار في ذلك الزمن.

“لم يكن أباء نواس جاداً ولا صادقاً حين كان يتغزل بالنساء. وإنما كان مازحاً. أو بعبارة أصح كان مخادعاً، وكان كاذباً. كان مغروراً وكان مفتوناً. وكان مع هذا شاعراً. يريد أن يطرق أبواب الشعر جميعها ومنها التغزلُ بالنساء. فتغزل بهن، حتى لا يفوته هذا الفن. فقد وصف النساء فأحسن وصفهن. وقد وصف ما بين النساء والرجال من صلة. فأجاد الوصف وأتقن التصوير.

ولكنه لم يصف النساء جميعاً. وإنما وصف طائفة منهن. ولم تكن هذه الطائفة أقربها إلى الطهر والعفاف، ولا إلى البر والصون، وإنما كانت طائفةً مبتذلة ممتهنة، حظها من الطهر والعفاف قليل. لم يعرض أبو نواس أو لم يك يعرض للمحصنات من النساء. ولا للحرائر منهن. وإنما عرض للإماء، فأحسن وصفهن، وترك لنا منهن صورة إن لم تكن صحيحةً صادقة فهي قريبة جدا من الحقيقة الواقعة. عرض للإماء و لطائفة بعينها من الإماء. لهذه الطائفة التي كانت تتألف من إماء مهذبات، قد أُحسن تأديبهن، فروين الشعر وقرضنه، وأحسنَّ الموسيقى، و نبغن فيها، وأخذن من العلم والأدب بطرف لا بأس به. فكن يثبتن لمناظرة الشعراء والعلماء وأئمة اللغة، وكن يمتزن بذلك، و يتقدمن على الحرائر والمحصنات، لأن حرية هؤلاء و إحصانهن كانا يحولان بينهن وبين التحدث إلى الرجال، والتبذل في هذا الحديث.

كن مبتذلات، خليعات، يتهالكن على الخلاعة. و يتخذن إسرافهن في المجون سلاحاً قوياً يتملقن به لذة الرجال وشهواتهم. و يحاربن الحرائرَ المحصنات حرباً غير متكافئة.

 كانت الإماء إذاً مظهر المرأة في بغداد، ولكنه كان مظهراً سيئاً جداً من جهة أخرى، لأنهن كن مبتذلات، خليعات، يتهالكن على الخلاعة. و يتخذن إسرافهن في المجون سلاحاً قوياً يتملقن به لذة الرجال وشهواتهم. و يحاربن الحرائرَ المحصنات حرباً غير متكافئة. وكن مظهراً حسناً لأنهم كن أديبات عالمات. يتصرفن في فنون الأدب والعلم على اختلافها.  ومن هنا وجب القصد والاحتياط في الحكم على نساء هذا العصر بما نرى في شعر أبي نواس وغير أبي نواس. وبما نرى في الأغاني وغير الأغاني، مما يشهد بتفوقهن العقلي من جهة. و انحطاطهن الخلقي من جهة أخرى. يجب القصد والاحتياط. لأن الكثرة المطلقة من هؤلاء النساء لا تمثل المرأة العربية الحرة، بل لا تمثل المرأة المسلمة الحرة؛ وإنما تمثل هذا الرقيق الذي كان يجلب إلى بغداد وغير بغداد من حواضر المسلمين؛ فيُتخذ فيها تجارةً ولهواً. كما يتخذ تجارة ولهواً فاخر الأثاث وحسن الرياش. هؤلاء النساء لا يُمثلن المرأة الحرة، وإنما يمثلن الرجل الحر، فقد كن له لذة ولهوا؛ وكن لأخلاقه وحياته خارج البيت مرآة مجلوة، تمثلها أحسن تمثيل. فلولا أن هؤلاء الإماء اللاتي ذكرهن أبو نواس كن يحببن اللهو و يتهالكن على المجون و يضربن فيه من ضروب الخلاعة والابتذال ما لا يقبلنه الحرائر. لما استطاع أبو نواس وغير أبي نواس أن يقولوا فيهن ما قالوا أو أن يصفونهن بمثل ما وصفوهن به.

فاعتقلوا الحرائر المحصنات و كلفوهن ما تتكلفه المرأة الحرة المُحصنة. من الإشراف على حياة الأسرة في عفةٍ وكرامة. ولكن من وراءِ حجاب. ثم أسرفوا في اتخاذِ الرقيق، و أباحوا لأنفسهم مع هذا الرقيق من ضروب اللذات، ما تأبى الكرامة وإكبار الحرائر اتخاذه مع الزوجات.

كان في جاهلية العرب وصدر الإسلام، وأيام بني أمية شعراء يحبون الفتك، ويتحدثون به، فلأمرئ القيس وعمر ابن أبي ربيعة في ذلك شعر كثير، ولكن هؤلاء الشعراء كانوا يؤثرون العفة وحسن القول. حتى في الفتك والفحش، كان شعرهم الفاحش قليلاً جدا بالمقارنة مع إلى شعرهم العفيف. وكان الشعراء الصادقون في الحب، المؤثرون للعفة والطهارة في كل ما يقولون. كثيرون جدا بالقياس إلى هؤلاء الشعراء الفاتكين. ذلك لأن سلطان الإماء كان ضعيفاً أو لم يكن موجوداً في هذه العصور. ولأن الرجال الأحرار كانوا يؤثرون كرامتهم على لذاتهم. فكانوا يؤثرون نسائهم على إمائهم. أما في أيام بني العباس فقد تغيرت الحال تغيراً شديداً، وكثر الإماءُ كثرةً فاحشة.  وتفوقن تفوقاً فاحشاً، في الأدب والشعر والغناء، وفي ضروب الزينة وفي استهواء الرجال. وتغيرت أخلاق الرجال، فتهالكوا على اللذة، واستبقوا إلى الشهوات. فاعتقلوا الحرائر المحصنات و كلفوهن ما تتكلفه المرأة الحرة المُحصنة. من الإشراف على حياة الأسرة في عفةٍ وكرامة. ولكن من وراءِ حجاب. ثم أسرفوا في اتخاذِ الرقيق، وأباحوا لأنفسهم مع هذا الرقيق من ضروب اللذات، ما تأبى الكرامة وإكبار الحرائر اتخاذه مع الزوجات. فكان هذا الفساد العظيم. الذي يمثله أبي نواس بالنساء والغلمان.

أترى أن أبا نواس، كان يستطيع أن يقول في حرةٍ محصنة مثل هذه القصيدة:

وَنابِهٍ في الهَوى لَنا ناسِ                    قَطَّعَ لي بِالهِجرانِ أَنفاسي

لَستُ لَها واصِفاً مَخافَةَ أَن                     يَعرِفَ ما بي جَماعَةُ الناسِ

أَكثَرُ وَصفي لَها شِكايَةُ ما                       فيها قَضى اللَهُ لي عَلى راسي

  يُطمِعُني لَحظُها وَيُؤنِسُني                            بِاللَفظِ مِنها فُؤادُها القاسي

  فَصِرتُ بِاللَحظِ مِن مُعَذِّبَتي                          وَاللَفظِ بَينَ الرَجاءِ وَالياسِ

أَسعَدُ يَومٍ لَها حَظيتُ بِهِ                            مَقالُها لي وَلَستُ بِالناسي

لِذَلِكَ اليَومِ ما حَيِيتُ وَما                              تَرجَمَ قَولي سَوادُ أَنفاسي

تَقولُ لي وَالمُدامُ مُرسَلَةٌ                              تُفيضُ حَولي نُفوسَ جُلّاسي

هَل لَكَ أَن تَطرُدَ النُعاسَ فَقَد                          طابَ اِنضِواعُ المُدامِ وَالآسِ

قُلتُ لَها فَاِبتَدي وَهاتي فَما                             حَسَوتِ مِنها فَإِنَّني حاسِ

إلى آخر القصيدة.. اقرأها كاملة هنا

أترى امرأة حرةً مُحْصنة، تستحِث أبا نواس على المنادمة ومنازعة الكأس؟ أترى إليها تذهب هذه المذاهب الملتوية، في اجتذابه إليها وترغيبه فيها؟  تُطمِعه حيناً، وتؤيسه حيناً آخر؟ بل أترى إلى امرأة حرةٍ محصنة تبتذل نفسها، فتنزل إلى المداعبة والمنادمة؟ كلا، وإنما هي أمةٌ من الإماء، وامرأة من هؤلاء النساء اللاتي بذلن أنفسهن، فابتذلهن الرجال. ومن هنا لم يكن أبو نواس صادقاً، ومتحدثاً، عن عاطفة قوية متقدة في أكثر الأحيان حينما كان يذكر هؤلاء النساء. أو يتغزل بهن وإنما كان يترضَّاهن ترضياً ويتملقُهن تملقاً، ويتخذهن وسيلة إلى إرضاء مُجونه من جهة ومن جهة أخرى.

أضف إلى هذا أبا نواس كان معتدلاً جداً في الميل إلى النساء، وكان مسرفاً جداً في ميلٍ آخر، فمن المعقول ألا يتحدث عن نفسه وعواطفه حين يتغزل بالنساء، ولا تكاد تقرأ قصيدة أو مقطوعة من شعر أبي نواس في هذا الفن من الغزل، إلا رأيت فيها التكلف واضحاً، والكذب واضحاً، لا أريد التكلف اللفظي وإنما تكلف المعنى، وانتحال الحب.

المصدر: من تاريخ الأدب العربي، طه حسين، المجلد الثاني صفحة 202