في كتابه (من شرفة ابن رشد) يقرأ عبدالفتاح كليطيو مشهد الوعظ في مجلس الخلفاء، ويطرح مثالا لحديث ورسائل دارت بين الخليفة هارون الرشيد، وبين سفيان الثوري أنقل لكم منه الجزء التالي:.
“لنلتفت إلى خبر يرويه اليوسي في رسالته الكبرى إلى المولى إسماعيل يتعلق الأمر هذه المرة بسفيان الثوري وهارون الرشيد:
” لما ولي هارون الرشيد الخلافة، وجاءته الوفود، فتح بيوت الأموال، وجعل يعطي تشوّفاً إلى سفيان، وكان صديقا له قبل ذلك في صحبة العلم، فلما لم يقدم عليه كتب إليه مع عباد الطالقاني. فلما دخل عباد وجده مع أصحابه في المسجد. فلما رآه سفيان قام إلى الصلاة فانتظره حتى فرغ فدفع إليه الكتاب فلم يمسه وقال لبعض أصحابه اقرأه، فإذا فيه: إنّا انتظرنا قدومك علينا، ونحن على المحبة والعهد الذي بيننا إلى آخر كلامه، فقال سفيان لصاحبه: اكتب على ظهره، فقالوا ياأستاذ تكتب له في قرطاس نقي فقال: على ظهر قرطاسه فإن كان اكتسبه من حلال فيسكون، وإن كان اكتسبه من حرام لم يبق عندنا ولم يفسد علينا ديننا فكتب: إلى هارون المغرور، الذي سلب حلاوة القرآن، واستمر على هذا الأسلوب إلى أن قال له: إنك فتحت بيت مال المسلمين وجعلت تفرقه في شهواتك، فهل أذن لك المجاهدون؟ وهل أذن لك اليتامى والأرامل؟ إلى غير ذلك مما ذكره. ثم قال له: أما المحبة فقد قطعناها فلا عهد بيننا ولامحبة، فلا تكتب لنا بعدها فإنك إن فعلت لانقرأ كتابك ولا نجيبك. ودفعه لعبّاد. فلما رأى عباد تلك الحالة، خرج إلى السوق، ونزع ثيابه ولبس دونها، ووكل بالبرذون من يبلغه دار الخلافة وتاب إلى الله تعالى. وجاء بالكتاب إلى الرشيد فلما رآه الرشيد فطن به فصاح وقال: أفلح الرسول وخاب المرسِل فناوله الكتاب وقرأه وبكى حتى رحموه. فقال له الجلساء قد تجرأ عليك سفيان، فأرسل من يأت به إليك فقال: اسكتوا المغرور من غررتموه”.
أن يبكي الخليفة حين قراءة الوعظ، فهذا جيد، ولكن أن يوبخ جلساءه، فهذا أجدر بالتقدير: يبرهن على أنه قد فهم الدرس وأنه بدوره ينشر الموعظة الحسنة من حوله.
لهذا الخبر مشابه عديدة مع الخبر السالف: لنكتف بتتبع السمات التي تميزه عنه، التواصل بين الخليفة والفقيه لايتم شفاهة بل كتابة، مما يُحدث مسافة، مكانية أولا (الخليفة في قصره، والفقيه في المسجد) لكن الجدير بالملاحظة هو لهجة رسالة سفيان، المفرطة في الجرأة. لا يستخدم سفيان أي حكاية مَثَلية، ولا عبارة احترام أو حذر. بل يذهب بالصلف إلى حد الامتناع عن رسالة الخليفة والأمر بكتابة الجواب بواسطة تلميذ على ظهر نفس الرسالة. وهذا على مرأى ومشهد من الجميع: وسط تلامذته (الذين صدمهم عدم كتابته على قرطاس نقي) وهارون حوله جلساؤه، لم يبطئ هؤلاء في الانفعال، أن يبكي الخليفة حين قراءة الوعظ، فهذا جيد، ولكن أن يوبخ جلساءه، فهذا أجدر بالتقدير: يبرهن على أنه قد فهم الدرس وأنه بدوره ينشر الموعظة الحسنة من حوله.
ربما ندرك الآن مقصد الوعظ، أي وعظ: انتزاع الدموع من المتلقي
ختم اليوسي هذا الخبر على هذا النحو:” ولم يزل كتاب سفيان عند هارون يخرجه الحين بعد الحين حين يقرأه” ولايوضح اليوسي إن كان هارون يبكي عند كل قراءة…
ربما ندرك الآن مقصد الوعظ، أي وعظ: انتزاع الدموع من المتلقي. عمر بن عبدالعزيز الذي يعجب اليوسي به إعجابه بالخلفاء الراشدين، لما سمع ذات يوم موعظةً ” جعل يبكي ويشهق حتى كاد يموت” الدموع تنتج عن خوف وتستعمل النصوص القديمة” خوف” و “وعظ” على السواء لتعيين نفس الظاهرة.
الدموع مثلما الضحك، ينزعان فتيل توتر: يصير السلطان مستعدا لإرضاء أي طلب، وإزجاء الأفضال، ومنح العطايا (التي غالبا ما يقبلها صاحب الفكاهة ويرفضها صاحب الموعظة).
قال عمر بن الخطاب يوما لكعب الأحبار ” خوّفنا”. في هذين المثالين الأخيرين، السلطان نفسه هو المطالب بالكلمة التي ستنذره وتسكب دموعه.
ينبغي للوعظ أن يثير بكاء السلطان، على نحو ما ينبغي للهزل أن يستثير ضحكه. ويحدث أن تتكفل نفس الشخصية بالوظيفتين معاَ. بهلول مثلا يبّكي مرة هارون الرشيد ويضحكه أخرى. الدموع مثلما الضحك، ينزعان فتيل توتر: يصير السلطان مستعدا لإرضاء أي طلب، وإزجاء الأفضال، ومنح العطايا (التي غالبا ما يقبلها صاحب الفكاهة ويرفضها صاحب الموعظة). ولنزيد من إدراكنا لدلالة الوعظ ومداه، لنقارنه سريعا بالمدح والهجاء. المدح يشجع ويحفز. والهجاء على النقيض يثبط، ويذل ويهين. إن هجاء للشاعر الأعشى (أبكى علقمة كما تبكي الأمَة). لكن الهجاء بخلاف الوعظ، يحاول أيضا إثارة الضحك لأنه يفترض جمهورا (مستمعين وقراء) يستمتعون بإذلال الضحية ينتسج تواطؤ بين صاحب الهجاء والآخرين، جميع الآخرين ماعدا واحد: لا رحمة بالضحية التي ستوسم مدى الحياة بالميسم المسموم. الوعظ الموجه للسلطان يثير بكاءه، لكنه وحده هو الذي يتأثر. حاشيته التي لا تأثير له عليها غالبا ما يكون رد فعلها هو الغضب. تحقد عليه لأنه ثبط السلطان. لكن هذا الأخير يتبنى هذه الحال، لأنه بتصاغره أمام الله، يعظم أمام الناس. إنه يجنى امتيازا أكيدا من التثبيط الفجائي الذي يصيبه: تصاغره يصير موضوعا لخبر، خبر سيروى ويثير الإعجاب العام.