فصل من كتاب أدونيس “كلامٌ في البدايات” يتحدث فيه عن التجربة القرائية الشعرية للشعر العربي، ويطرح في الأصل تفرقة مهمة بين النص النثري والنص الشعري وكيف يجب أن يختلف فعل القراءة تبعاً لاختلافهما
إذا تفحصنا الآراء والأحكام النقدية التي تشيع بين أوساط قراء الشعر والمعنيّين به في المجتمع العربي، نلاحظ أنهم يهتمون بالموضوع أو بالمضمون أولاً، وأن اهتمامهم بالنواحي الفنية -الجمالية-، يأتي في درجةٍ ثانية وبعضهم قد يهملها كلياً فالقارئ هنا ينتظر من النص الشعري (فائدة) أو (منفعة) ما ينتظر(جواباً). والقراءة هنا هي في عمقها قراءة نثرية وليست شعرية-إلا ظاهرياً فكيف نقرأ الشعر، شعرياً؟
قبل ان احاول الاجابة عن هذا السؤال، سأقدم مثالاً توضيحياً وتبسيطياً لإظهار الفرق بين (الشعري) و (النثري)، سأمثل (الشعري) بديوان أبي نواس، و(النثري)بمقدمة ابن خلدون وتهافت الفلاسفة.
يبدو من هذا المثال أن المشترك الوحيد بين ابن خلدون والغزالي من جهة، وأبي نواس من جهة ثانية هو أنهم بوصفهم كتاباً كباراً يصدرون في كتاباتهم عن رؤية أو موقف. وفيما عدا ذلك يبدو الخلاف جذرياً، وكلياً.
والواقع أن النظر السائد إلى الشعر في المجتمع العربي لا ينهض على الفنية -الجمالية، بل على الفكرية-المنفعية التي هي من طبيعة النّثر. إنه نظر (يُترجم) النص الشعري، دائما بلغة (الفائدة) و(المصلحة) أي بلغة (الوضوح) و(التعقل) وهي (ترجمة) تحول النص الشعري إلى نص نثري (علمي) فتمحو جمالية الكلمات وعلاقاتها والصور والتخيلات والأبعاد الانفعالية لكي تثبت (المضمون) وهي إذن (إهلاك) للنص الشعري من حيث إنها لا ترى فيه إلا ما يمكن استهلاكه.
والحق إن قراءة النص الشعري تفترض على العكس إغناءه من حيث أنها سيرٌ في الأفق الذي يفتحه، ومن حيث أن هذا السير لا ينتهي، لأنه استقصاء للعمل وعلاقات رموزه وصوره. ومن هنا ليس للنص الشعري معنى -كما كان يُفهم، تقليدياً و ‘نما هو حركة من الدلالات. إنه بتعبير آخر لا يقدّم اليقين بل الاحتمال .
إنه نص يتجدد مع كل قراءة: لا ينتهي ولا يُستنفذ هذا ما يميز الأعمال الشعرية الخلاقة، هكذا تتضمن قراءة الشعر طريقة التذوق والفهم التقويم، وتعني شعرية القراءة ابتكار الأفق الخاص بهذه الطريقة لمواكبة الأفق الابداعي في النص المقروء
لهذا تفترض قراءة الشعر، في هذا المستوى شروطاً كثيرة أهمّها: القدرة على استعادة الحالة الشعورية -الخيالية- الفكرية الكامنة وراء النص المقروء والقدرة على التمييز بين التجارب الشعرية مما يفترض ثقافة شعرية واسعة، والقدرة على التقويم الجمالي .
هناك ايضاً شروط لحُسن التلقي الشعري، أهمها ألا نتلقى النص الشعري بأفكارنا المُسبقة، خصوصاً إذا كانت نظرة الشاعر تُخالف نظرتنا، ذلك أن تذوق القصيدة شعرياً، لا يأتي من مضمونها (الفكري) بما هو أفكار وإنما يأتي من فنية التعبير أو من نظام الكلام ومن هنا لا يصح الحكم على القصيدة بمعيار المضمون، كأن نرفض مثلا، باسم موقفنا الأخلاقي قصيدة غير أخلاقية، أو قصيدة تتعارض مع الأفكار التي نؤمن بها.
ولابد من أن يلاحظ القارئ، بدئيا، أن العمل الشعري الذي يقرؤه ليس معزولا، أو معلقا في الفضاء، وإنما هو، على العكس ودائما في، ومع. لذلك لا تصح قراءته كأنه سطح شكلي- لغوي لا غير. ولا تصح قراءته كذلك قراءته كأنه مضمون- اجتماعي لا غير.
بكلام آخر، لا تصح قراءة العمل الشعري بما خارج عنه، ولا بمجرد نصيته المحضة. فقراءته بعناصر من خارجه إلغاء له، وقراءته بذاته وحده، إلغاء لتاريخيته ولاجتماعيته. فليس العمل الشعري مجرد انعكاس واقعي اجتماعي. إنه قبل كل شيء: مركب إبداعي يصدر عن مركب إنساني، وهو إذن قبل كل شيء، كشف. أعني أنه ليس وثيقة عن المعطى، وإنما هو اختراق وتجاوز.
بعد أن يكتمل تذوق العمل الشعري وفهمه، يبدأ تقويمه. والتقويم هو نوع من الجواب عن هذا السؤال: ماذا أنتظر، بوصفي قارئا من قراءة النص الشعري؟ وجوابي الخاص هو التالي: أنتظر ما يغاير خبرتي ومعرفتي وما يزيد في غناهما. انتظر رؤية جديدة للأشياء، وبنية جديدة في التعبير عنها.