مقتبس من كتاب “الروائي الساذج” لأورهان باموق، حديث عن العمليات التي يقوم بها عقلنا عندما نقرأ رواية. حلل باموق ووضع النقاط التسع التي لاحظ أنها تحدث في عقولنا ووعينا عند قراءة رواية. ربما تساعد معرفة هذه النقاط على زيادة فهمنا لمتعة وأهمية واختلاف تجربة قراءة الرواية.
أورهان باموق: ..
روائي تركي فاز بجائزة نوبل للآداب، لعام 2006. من مواليد إسطنبول في 7 يونيو عام 1952
إليكم العمليات التسع التي يقوم بها عقلنا عندما نقرأ رواية:
أولا: نتأمل المشهد العام ونتابع القصة، المفكر والفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت، يفترض في كتابه عن “دون كيخوت” لثيربانتس، بأننا نقرأ روايات التشويق والمغامرة وروايات الفروسية والروايات رخيصة الثمن (الروايات البوليسية، وروايات الحب، وروايات التجسس، وإلى آخره من الروايات التي قد تضاف إلى هذه القائمة) لمعرفة ما يحدث بعد ذلك. لكننا نقرأ الرواية الحديثة، من أجل أجوائها. وفقا لأورتيغا، إي غاسيت، أجواء الرواية هي شيء ما أكثر قيمة. هي مثل لوحة مرسومة وتحتوي القليل من السرد.
لكننا نقرأ الرواية سواء اشتملت على الكثير من السرد والأحداث، أم لم تحتو على أي سرد، مثل لوحة. إن سلوكنا المعتاد هو تتبع أحداث القصة ومحاولة اكتشاف المعنى. ولذا، الفكرة الرئيسية المقترحة هي تتبع أحداث القصة ومحاولة اكتشاف المعنى عبر كل الأشياء، التي تصادفنا في الرواية.
حتى إذا كانت الرواية تماما مثل لوحة، تصف العديد من الأوراق المنفردة في شجرة، ورقة تلو الأخرى بدون سرد حدث واحد (هذا النوع من الرواية يستخدم على سبيل المثال في الرواية الفرنسية الحديثة، من قبل آلين روب غرييه، أو ميشال بورتو) نبدأ بتأمل ما يحاول الراوي التلميح له بهذه الطريقة. وأي نوع من القصة ستشكلها كل هذه الأوراق في النهاية. عقولنا تبحث باستمرار عن الدافع، الفكرة، الهدف، والمحور السري كي نستمد المتعة من الرواية هو أن علينا الاستمتاع بهجر الكلمات، وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا. عندها نصور في مخيلتنا من خلال البحث عما يريد الكاتب قوله، أو ما يريد الراوي قوله، ما الذي ينوي أن يقوله، ماذا نخمن أن يقول؟
ثانيا: تحول الكلمات إلى صور في عقولنا، الرواية تحكي قصة، لكن الرواية ليست مجرد قصة. يظهر من القصة عدة مواضيع، وصف، أصوات، حوار، خيال، ذكريات، معلومات بسيطة، أفكار، أحداث، مشاهد وأزمنة. لكي نستمد المتعة من الرواية علينا الاستمتاع بهجر الكلمات، وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا. عندما نصور في مخيلتنا من خلال البحث عما يريد الكاتب قوله، أو ما يريد الراوي قوله، ما الذي ينوي أن يقوله، ماذا نخمن أن يقول؟ – أو بمعنى آخر، من خلال البحث عن محور الرواية.
ثالثاً: الجزء الآخر من عقولنا يتساءل كم من التجربة الحقيقية أخبرنا بها الكاتب في هذه القصة، وكم من الخيال. يلح علينا هذا السؤال خاصة مع أجزاء الرواية التي تثير لدينا الدهشة والرعب والمفاجأة. قراءة رواية يعني تساؤل مستمر حتى في اللحظات التي نفقد فيها أنفسنا، بعمق في الكتاب، كم من الواقع في هذا الكتاب، وكم من الخيال، تناقض منطقي موجود بين فقدان الذات في الرواية والتفكير الساذج بأنها حقيقة من جهة ومن جهة أخرى فضول المرء الحساس- المتأمل حول حجم الخيال الذي تحتويه الرواية. لكن الطاقة التي لا تنضب وحيوية الإبداع الروائي، تنبع من منطقها الفريد ومن اعتمادها على هذا النوع من الصراع. قراءة الرواية تعني فهم العالم عن طريق المنطق اللاديكارتي. أعني بذلك القدرة الدائمة والثابتة لتصديق الأفكار المتناقضة في وقت واحد. لهذا، البعد الثالث للواقع بدأ في الظهور ببطء في داخلنا، أبعاد العالم المعقد للرواية. عناصر الرواية تتصارع مع بعضها، لكن في الوقت نفسه تكون مقبولةً معروفة.
رابعا: لانزال نتساءل: هل الواقع مثل هذا؟ هل تنسجم الأشياء المروية، المنظور، والوصف في الرواية مع ما نعرفه في حياتنا؟ على سبيل المثال: نسأل أنفسنا: هل يستطيع المسافر في قطار الليل من موسكو إلى سانت بطرسبرغ في عام 1870 أن يجد بسهولة الراحة والهدوء لقراءة رواية، أم أن الكاتب يحاول أن يبين لنا أن آنا (شخصية آنا من رواية تولستوي آنا كارنينا) مولعة بالكتب لدرجة أن تحاول القراءة وسط تشويش الضوضاء؟ في جوهر حرفة كتابة الرواية، يكمن تفاؤل أساسه أن: المعرفة التي نجمعها من تجاربنا اليومية، إذا ما أعطيت شكلاً مناسباً، يمكن أن تصبح معرفة قيمة عن الواقع.
خامساً: تحت تأثير هذا النوع من التفاؤل، كلانا يحدد ويستمد المتعة من دقة التشابه، قوة الخيال والسرد، تراكم الجمل، الشعر الغامض والصريح وموسيقى النشر. مشاكل ومتعة الأسلوب ليست في جوهر الرواية، لكنها تقترب جداً منه. أيضا يمكن تناول هذا الموضوع الجذاب فقط من خلال آلاف الأمثلة.
سادساً: نُصدر أحكاماً أخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبطال الرواية، وفي نفس الوقت، نقّيم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته. الأحكام الأخلاقية هي ورطة لا مفر منها في الرواية، دعونا لا ننسى أبداً أن الحصيلة الأفضل لفن الرواية ليست من خلال محاكمة الناس لكن من خلال فهمهم. ودعونا نتجنب التعرض للحكم من خلال منطقة الإدانة في عقلنا. عندما نقرأ رواية، يمكن أن تكون الأخلاق جزءاً من المشهد. وليست شيئًا ينبع من أنفسنا ويستهدف أبطال الرواية.
العلاقة الوثيقة التي نوطدها مع النص قد تبدو لنا نحن القراء مثل نجاحٍ شخصي
سابعاً: عقولنا تنفذ كل تلك العمليات في وقت واحد، وفي غضون ذلك، نحن فخورون بأنفسنا لأننا اكتسبنا الكثير من المعرفة، العمق والفهم. خاصة بالنسبة للروايات الإنجليزية الجيدة. العلاقة الوثيقة التي نوطدها مع النص قد تبدو لنا نحن القراء مثل نجاحٍ شخصي. الوهم الجميل بأن الرواية قد كتبت من أجلنا ينمو تدريجياً في داخلنا. الألفة والثقة التي تولد بيننا وبين الكاتب تساعدنا على التهرب وتجنبنا القلق الشديد حول أجزاء الكتاب التي لا نستطيع فهمها.أو الأشياء التي نعارضها أو غير المقبولة بالنسبة لنا. بهذه الطريقة نحن دائماً ندخل في تواطؤ مع الروائي إلى حدٍ ما. عندما نقرأ رواية، جزء واحد منشغل في الحجب، التغاضي، تشكيل، وبناء سلوكيات إيجابية تشجع هذا التواطؤ. وحتى نتمكن من تصديق الراوي، كما يريد لنا ذلك، لأننا نريد الاستمرار في قراءة القصة بأمانة..
ثامناً: بينما كل النشاط العقلي مستمر، ذاكراتنا تعمل بشكل مكثف وبدون توقف. ولكي نستطيع أن نستمتع في القراءة ونستمد المعنى من العالم الذي كشفه لنا الكاتب، نشعر بأننا يجب أن نبحث عن محور الرواية السري. وتحقيقاً لهذه الغاية، نحاول أن نخزن كل تفصيل في ذاكرتنا، كأننا نحفظ كل ورقة من أوراق الشجرة عن ظهر قلب. تذُّكر كل شيء عمل شاق، ما لم يبسط أو يخفف الكاتب عالمه لمساعدة القارئ الغافل. هذه الصعوبة تحدد لنا أيضا حدود الشكل الروائي. حجم الرواية يجب أن يسمح لنا بتذكر كل التفاصيل التي نجمعها في عملية القراءة. لأن كل ما نواجه عندما نتحرك، خلال المشهد، مرتبط مع كل شيء آخر يصادفنا، في الروايات التي بُنيت بشكل جيد، كل شيء مرتبط ببعضه، وهذه الشبكة من العلاقات تشكل أجواء الرواية وتشير إلى جهة محورها السري.
تاسعاً: نحن نبحث عن لغز محور الرواية بكل اهتمام، هذه هي العملية المتكررة التي يقوم بها عقلنا أثناء قراءة الرواية. سواء كان بشكل ساذج وعفوي، أو بتأمل عاطفي. ما يميز الروايات عن أشكال السرد الأدبية، هو أنها تمتلك محوراً، أو، لأكون أكثر دقةً، تعتمد الروايات على اقتناعنا بأن هناك محور يجب البحث عنه أثناء القراءة. يتألف هذا المحور بعيدًا عن سطح الرواية، ونتعقبُه كلمة بعد كلمة. نحن نتخيل أن المحور في مكان ما في الخلفية. خفيٌّ، من الصعب تقصي أثره، غير ملموس، وفي حركة مستمرة. نفترض متفائلين أن دلالات هذا المحور في كل مكان، وأن المحور مرتبط بكل التفاصيل في الرواية، كل شيء يواجهنا على سطح المشهد الواسع.
. الروايات هي قصص مفتوحة لمشاعر الذنب، الجنون، والقلق. إدراكنا للعمق الذي نشعر به أثناء قراءة الرواية. الوهم الذي يغمرنا به في عالم ثلاثي الأبعاد ينبع من وجود المحور. سواء كان هذا المحور حقيقيًا أم لا.
لأننا نعلم أو نحن نفترض أن الروايات تحتوي على محاور، علينا، نحن القراء، أن نفعل مثل الصياد الذي يعامل كل ورقة وكل غصن مكسور على أنه إشارة ويتفحصها عن قرب بينما هو يتقدم عبر المشهد. نحن نتحرك إلى الأمام، نشعر بأن كل كلمة جديدة، موضوع، صفة، شخصية، حوار، تفصيل، وحدث، وكل الخصائص اللغوية أو الأسلوبية للرواية وحيلها السردية، توحي وتشير إلى شيء آخر مختلف عما هو جلي وواضح. فكرة أن الرواية تمتلك محوراً سرياً، يجعلنا نشعر بأن الحدث الذي افترضنا عدم صلته، بالموضوع قد يبدو مهماً، وبهذا المعنى كل شيء في سطح الرواية قد يكون مختلفاً تماماً عما يبدو عليه. الروايات هي قصص مفتوحة لمشاعر الذنب، الجنون، والقلق. إدراكنا للعمق الذي نشعر به أثناء قراءة الرواية، الوهم الذي يغمرنا به في عالم ثلاثي الأبعاد. ينبع من وجود المحور. سواء كان هذا المحور حقيقياً أم مُتخيلاً.