قرأت عدد “نشرة فلان” على منصة ثمانية للكاتبة مضاوي الدخيّل بعنوان ” ماعنكم غطا”، تحدثت عن النقاب وكيف يحضر اليوم في المشهد، وتحوله الذي تصفه الكاتبة في أفضل الحالات إلى وضع تنميطي يفرض اللجوء إلى ” كمامة” تراعي الحاجز الاجتماعي للسفور
بدأت الكاتبة بدراسة لأساطير عربية واغريقية حضر فيها النقاب، لكن بصفته ملبوسا بناء على رغبات شخصية (عشتار) أو تأثيرات مناخية على نساء الجزيرة العربية (المرأة التدمرية والمرأة النبطية) وبوضعه “التدليسي” الذي كما أشارت الكاتبة في” عادة بيديكن” الارثوذكسية.
أكتب هذا الرد لأنني أرى أن هناك نظرة نمطية تنتشر في الأوساط الثقافية والاجتماعية تجرد المرأة المنقّبة من اختيارها وتفرض سردية الزام النساء بالنقاب، وهذا شيء لا يمكن التسليم به، وهو ما يوحي به العنوان العريض الذي اختارته الكاتب في أحد المنشورات تقول فيه: هل سينزع النقاب أهدابي؟ بمعنى آخر هل سيشوهني؟
وبما أن الكاتبة – محاولة استعراض الحياد- تطرقت إلى وجهة النظر الاستشراقية التي تملأ اطروحات المستشرقين والتيّ تقدمُ ازدواجية غريبة تمتعض من غياب النساء وتنتقد انتقابهن واحتجابهن وهي في نفس الوقت تدعو لحريتهن، أيَّ حرية بخلاف حرية النقاب والاحتجاب، مع ذلك، لا تقدم طرحا يختلف كثيرا عما قدموا رغم الاستشهادات التي طرحتها عن نسوة من المجتمع رأين في تنقبهن ميزة أو قيمة.
حتما لا يجد القارئ اختلافاً كبيرا، حين تتطرق كاتبة محلية، تفهم أي تأثير كبير يلعبه التدين في قناعات النسوة في الجزيرة العربية، قناعات جعلتهن فخورات بانتقابهن وبسترهن في كثير من الأحيان، وجعلتهن يتمسكن به في أبعد المناطق النائية عن أي تأثير مجتمعي مثل وجودهن في بلدان الابتعاث الدراسي والعملي في الغرب، عندما تتعمد إغفال هذا الجزء الأهم. إنني اتساءل كيف يغيب عنها ذلك، وهي ترى الهالة الجيدة التي تربط بين المرأة الملتزمة بحجابها وبين قيم رفيعة من الحشمة والوقار والعفة وغيرها في المجتمع النسائي أولا قبل الرجالي.
هذا الإغفال الشائع اليوم، ومحاولة الفصل بين النقاب وبين دلالاته الاجتماعية ملاحظ في بعض الخطابات التي تدعي الدفاع عن حرية المرأة في الاختيار وتعتبر النقاب أحد المظاهر التقليدية الاجتماعية التي لم لكن للتدين شأن بها. وهو ما يبدو جليا عندما تبدأ هذه المقالة بطرح النقاب في الحضارات السابقة والتركيز على تعريفه – لا دينيا- وإرجاعه بشكل مستقل للعادات والحضارات كما يشي عنوان المقالة.
للكاتبة أن تتجاهل الشأن الفقهي الذي أثر بشكل كبير على وجود النقاب بشكل شبه الزامي. لكن بما أنها قد تكون غير مطلعة أو مهتمة بهذا الجانب في نشرة بريدية قصيرة مثل هذه، ومحدودة وتحتاج فيها للتركيز على جانب معين من تجربتها أو رأيها، لكنني أرى أن تناولها للنقاب من ناحية اجتماعية وثقافية لايمكن أن يغيب عنه أمران، أولا: كيف كان النقاب مؤثرا على النظرة للمرأة بمعنى كيف أثر على قيمتها الاجتماعية وصار لبسه جزءا من هوية معينة. وثانيا: كيف رأته المرأة هي نفسها؟ هل ارتضته لنفسها؟ هل بنت عليه تصوراتها الخاصة عن مجتمعها النسائي، وكيف كانت تتعامل مع مايثيره النقاب من مسائل وقضايا تتعلق بحضور المرأة في الشأن العام.
أود أخيرا أن أعلق على بعض الملاحظات التي أثارتها لدي بعض العبارات التي وردت في المقالة:
“فغطاء الوجه خير وسيلة لتنفيق¹ البنات، إذ تتماثل النساء إذا ما غُطّيت وجوههن.”
هناك عدد لا بأس به من المفاهيم التي يسردها هذا المقال عن النقاب، منها ما تعبر به الكاتبة بأنه “خير وسيلة لتنفيق البنات” وفسرت كلمتها في هامش المقال: “تنفيق” :ترويج. وهو معنى غير واضح ولا أعرف إن كانت فعلا تعني أن تسويق البنات يتم بشكل أفضل حال تغطيتهن وجوههن؟ ثم تسويقهن لماذا؟ أليست هذه هي النظرة المنتقصة من المرأة التي تراها شكلا لأنها تكمل وتقول: ” إذ تتماثل النساء إذا ما غُطّيت وجوههن”
تقول أيضا: ” ما انقرضت البراقع الملوّنة لصالح الأسود؛ لصالح تأويل واحد يختزل البرقع بوصفه أداةً ذكورية قمعية في سياقٍ حداثي”
وهو تأويل غريب يعتقد أن اختلاف ألوان البرقع كان يمكنه أن يجعل التفسير الذي يقول بفرضية حالة الإكراه والقمع التي يفرضها النقاب أضعف أو أخف نظرا لان هناك ” أنواع وألوان من البراقع” وهو تفسير سطحي جدا لا أعتقد أن من المنطقي الحديث عنه.
تربط الكاتبة في محل أخر، شكل البرقع الأسود الذي نعرفه اليوم وأنه ناتج عن” كرنفال براقع طويل” يشبه ” كرنفال الأقنعة في فينسيا” .. ولا أعلم هل يمكن أن يشكل لون البرقع فارقا كبيرا بالنسبة لوظيفته الأساسية الدينية والاجتماعية ليتحول بنظرها إلى شكل من أشكال التظاهر العبثي أو الاحتفال الشعبي الذي يسم هذا التشبيه الغريب
أنا هنا أجادل عن القيمة الدينية والرمزية والأدبية التي حملها البرقع على مدار العصور، وهي قيمة تتجاوز بكثير ما تطرقت إليه الكاتبة، من أن شكل النقاب أو البرقع كان أجمل مما هو عليه الان، لكنه في شكله الحالي أثقل وأكثير ” قمعية” مما يبدو في المسلسلات الحديثة التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية
لم أفهم ختام المقال الذي تقول فيه الكاتبة: ” بفضل النقاب، نجت أهدابي من التآكل، ثم ودّعتُ غطاء الوجه إلى غير رجعة” فهل كان كانت هذه هي أهم انعكاساته التي تقول بانحسارها وتقلصها؟
جَزى اللَهُ البَراقِعَ مِن ثِيابٍ… عَنِ الفِتيانِ شَرّاً ما بَقينا
يُوارينَ المِلاحَ فَلا نَراها… وَيُخفينَ القِباحَ فَيَزدَهينا
ذو الرمة (77 هـ – 117 هـ )