في كتاب ” مذكرات كاتب” يترجم لنا عدنان جاموس مقالات لدستويفسكي تحدث فيها عن تعلم عن الفرنسية والروسية وأهمية اللغة الأم بالنسبة للطفل.
كان بودي أن أسأل الأم هل تعرفين ما هي اللغة؟ ولم أعطينا الكلمة، حسب تصورك؟ لا جدال في أن اللغة هي شكل الفكرة، وجسدها وغلافها (من غير أن نشرح ما هي الفكرة)، أو لنقل إنها الكلمة الأخيرة والختامية في التطور العضوي. ومن هنا يتضح أنه كلما كانت المادة التي أفكر بواسطتها أغنى، وكانت أشكال التفكير التي اكتسبها للتعبير عن أفكاري أكثر ثراء كنت أكثر سعادة في حياتي وأوضح بياناً، سواء لنفسي أو للآخرين، وأكثر إفهاماً لنفسي وللآخرين، وأعظم سلطاناً، وأبين انتصاراً، وكنت أسرع في أن أقول ما أريد قوله لنفسي وللآخرين، وكان قولي أعمق، وفهمي لما أردت قوله أعمق أيضاً، وكنت بهذا أقوى، وأهدأ نفساً، وكنت طبعاً، أكثر ذكاء. ومرة ثانية أتساءل هل تعرف الأم أن الإنسان، مع أنه يستطيع أن يفكر بسرعة الكهرباء، إلا انه لا يفكر البتة بمثل هذه السرعة، بل بأبطأ منها بما لا يقاس ومع أنه يفكر بسرعة تفوق بما لا يقاس السرعة التي يتكلم بها، على سبيل المثال. فما السبب في هذا؟ السبب هو أنه لا يستطيع أن يفكر إلا بوساطة لغة ما. وبالفعل ربما نحن لا نلاحظ أننا نفكر بلغة ما، ولكن الأمر هكذا؛ وإذا كنا لا نفكر بالكلام، أي أننا لا تنطق كلمات وإن ذهنياً، ونحن نفكر، فإننا مع ذلك نفكر بالقوة الأساسية العفوية لتلك اللغة التي اخترنا التفكير بها، إذا جاز التعبير. ومن الجلي أنه كلما كان استيعابنا لتلك اللغة التي آثرنا التفكير بواسطتها أكثر مرونة وغنىً وتنوعاً كان التعبير بها عن فكرتنا أكثر غنى وتنوعاً، وفي الحقيقة: لم نحن نتعلم اللغات الأوروبية، الفرنسية، على سبيل المثال؟ أولاً، ببساطة، من أجل أن نقرأ بالفرنسية، وثانياً: من أجل أن تتكلم مع الفرنسيين عندما تتقابل؛ ولكن، قطعاً، ليس من أجل أن نتحدث بها فيما بيننا، أو مع أنفسنا. إن لغة مستعارة غريبة غير كافية للوصول إلى آفاق الحياة العليا وأعماق الفكر، وذلك بالذات، لأنها تبقى غربية عنا؛ ونحن في هذه الحالة بحاجة إلى اللغة الأم التي تلازمنا منذ ولادتنا، إذا صح التعبير. ولكن هنا بالذات تعترضنا مشكلة. فالروس، أو على الأقل، روس الطبقات العليا لم يعودوا، في أغلبيتهم، منذ زمن بعيد، يولدون مع لغة حية، بل هم يكتسبون فيما بعد لغة ما اصطناعية، ولغة روسية لا يعرفونها تقريباً إلا في المدرسة من خلال دروس القواعد النحوية. أوه، طبعاً، إذا كان لدى المرء رغبة شديدة، وكان ذا جد واجتهاد يغدو بوسعه، في نهاية المطاف، أن يعيد تربية نفسه، وأن يتعلم إلى درجة ما اللغة الروسية الحية بعد أن يكون قد ولد بلغة ميتة. وأنا أعرف كاتباً روسياً كوّن لنفسه اسماً، لم يتعلم اللغة الروسية فحسب، بعد أن كان يجهلها تماماً، بل تعلم أيضاً واقع الفلاح الروسي. وكتب فيما بعد روايات مستلهمة من الحياة الفلاحية. وقد تكررت هذه الواقعة عندنا أكثر من مرة، وكانت أحياناً تتخذ أبعاداً جدية جداً: فبوشكين العظيم كان مضطراً، كما يعترف شخصياً، إلى أن يعيد تربية نفسه، ويتعلم لغة الشعب والروح الشعبية من مربيته أرينا روديوتوفنا. إن تعبير «تعلم اللغة» ينطبق علينا، نحن الروس، بصورة خاصة، لأننا نحن الطبقة الراقية منقطعون عن الشعب إلى حد كبير أي عن اللغة الحية اللغة والشعب في لغتنا كلمتان مترادفتان؛ وما أعمق وأغنى الفكرة التي تنطوي عليها هذه الحقيقة!).
ولكنهم سيقولون : إذا كانت معرفة اللغة الحية لا تتيسر إلا بالتعلم، فإن الروسية والفرنسية في هذا سيان؛ بيد أن الأمر ليس كذلك، فاللغة الروسية أسهل على الروسي أياً كان الأمر ، وبصرف النظر عن الحاضنات الأجنبيات، وعن الظروف، وعلينا أن نستغل هذه السهولة من كل بد ما دام لدينا وقت لذلك. ولكي نمتلك ناصية هذه اللغة الروسية على نحو أكثر طبيعية، ومن غير إجهاد مفرط وليس عن طريق العلم فقط (ولا أقصد بالعلم هنا طبعاً، دروس القواعد المدرسية وحدها) يتوجب علينا حتماً أن نتشربها في الطفولة من أفواه الحاضنات الروسيات من أمثال أرينا روديونو فنا)، من دون أن نخشى أن تلقن الحاضنة الطفل معتقدات خرافية، كقصة الحيتان الثلاثة، على سبيل المثال. يا إلهي ! كيف يمكن أن تظل قصة الحيتان الثلاثة هذه ملازمة له طوال الحياة!) كما يجب ألا نخاف من الناس الشعبين البسطاء، بل حتى من الخدم الذين يحذر بعض المربين الآباء منهم. وعلينا فيما بعد أن نحفظ في المدرسة عن ظهر قلب نصوصاً مكتوبة بلغتنا منذ العصور القديمة من الحوليات التاريخية، والملاحم الشعبية القديمة، بل حتى المكتوبة باللغة السلافية – الكنسية؛ ومن الضروري استظهار هذه النصوص، على الرغم مما يقال عن تخلف طريقة البصم» [الصمّ] في الدراسة، وعندما نستوعب على هذا النحو لغتنا الأم، أي اللغة التي نفكر بها ونمتلك ناصيتها قدر المستطاع أي إجادتها بالقدر الذي يجعلها تبدو حية أو شبيهة بالحية، ونعود أنفسنا التفكير بوساطتها تحديداً، عندئذ يصبح بوسعنا أن نستفيد من قدرتنا الروسية الأصيلة على استيعاب علم اللغة الأوربي، ومعرفة عدة لغات. وبالفعل، نحن لن نكون قادرين على التمكن من لغة أجنبية بالقدر الممكن من الكمال إلا بعد أن نكون قد استوعبنا بالقدر الممكن من الكمال المادة الأولية، أي اللغة الأم، وليس قبل ذلك. وعندئذ نستمد اللغة الأجنبية، من غير أن نلاحظ ذلك، عدداً من الصياغات الغريبة عن لغتنا، ونلائم بينها وبين تفكيرنا، على نحو غير ملحوظ ولا إرادي أيضاً، ونوسع بهذا من أفق التفكر لدينا.
وثمة حقيقة ذات أهمية متميزة، وهي أننا ، بلغتنا الفتية التي لم تستكمل بنيتها بعد، نستطيع أن نعبر عن أعمق ما تتضمنه اللغات الأوربية من أشكال الروح والفكر: فالشعراء والمفكرون الأوربيون كافة بالإمكان ترجمة أعمالهم إلى اللغة الروسية. وتقديمهم بها، وقد تُرجم بعض منهم ترجمة بلغت حد الكمال. في حين أن الكثير جداً مما تحتويه اللغة الروسية الشعبية، والكثير جداً من أعمالنا الأدبية الإبداعية ما زال حتى الآن عصياً تماماً على الترجمة والتقديم باللغات الأوربية، ولا سيما الفرنسية ولا يمكنني أن أتذكر من غير أن أضحك ترجمة أصبحت الآن نادرة جداً لبعض أعمال غوغول إلى اللغة الفرنسية، قام بها في أواسط الأربعينيات في بطرسبورغ السيد فياردو، زوج المغنية المعروفة، بالاشتراك مع أديب روسي كان آنذاك مجرد كاتب شاب مبتدئ، وقد أصبح الآن مشهوراً عن جدارة؛ إذ إن ما قدماه كان ببساطة مجرد هراء، بدلاً من غوغول. وبوشكين أيضاً تتعذر ترجمته من نواح كثيرة. وأعتقد أنه لو ترجم أحدهم عملاً مثل سيرة الكاهن السامي «أفكوم« لجاءت الترجمة هراء أيضاً، أو من الأفضل القول: لما كان قد جاء أي شيء على الإطلاق. ما السبب في هذا؟ من المخيف القول إن الروح الأوربية ربما ليست بالغة التنوع، وهي أكثر انغلاقاً على خصوصيتها من الروح الروسية، بصرف النظر عن أنها بلا شك عبرت عن نفسها على نحو أكثر كمالاً ووضوحاً من تعبير روحنا عن نفسها. ولكن إذا كان من المخيف قول هذا
لكن ماذا إذا كان هذا الإنسان ذا قدرات، ويمتلك في رأسه فكراً وفي قلبه نفحات شهامة، هل يمكن أن يكون سعيداً؟ بما أنه لا يمتلك المادة التي ينظم بها كل عمق أفكاره ومتطلبات روحه، بل يظل طوال حياته يستعمل لغة ميتة، سقيمة، مسروقة، ذات صيغ متهيبة، مستظهرة غليظة، لا تفتح أمامه آفاقاً رحبة، فإنه سيظل أبداً يعاني جهداً مستمراً وتوتراً مفرط، ذهنياً وأخلاقياً عند التعبير عن نفسه، وعما يعتمل في وجدانه،
فلا بد من الإقرار على الأقل، والأمل والسرور يغمران روحنا، أن روح لغتنا هي بلا جدال، بالغة التنوع وغنية ومتعددة الجوانب، وتحيط بكل شيء، وذلك لأنها استطاعت، بأشكالها التي لم تستكمل بنيتها بعد أن تنقل نفائس الفكر الأوربي وكنوزه، ونحن نشعر أن هذا النقل دقیق و صادق. وها نحن أنفسنا نحرم أطفالنا من مثل هذه المادة؛ ومن أجل ماذا؟ من أجل أن نجعلهم بائسين، لا ريب. إننا نحتقر هذه المادة» ونَعدُّها لغة جلفة، وضيعة، لا يليق أن نعبر بها عن عواطف المجتمع الراقي أو أفكاره. أذكر بهذه المناسبة أنه جرى عندنا منذ خمس سنوات بالضبط ما سُمّي بالإصلاح الكلاسيكي للتعليم. ومن الأمور المعترف بها أن الرياضيات واللغتين القديمتين اللاتينية واليونانية هي الوسيلة العقلية، وحتى الروحية، الأكثر قدرة على التطوير. ولسنا نحن من ابتدع ذلك أو قرره فهو حقيقة لا مراء فيها، وقد أثبتتها التجربة في أوروبا كلها على مدى قرون وتبنيناها نحن. ولكن الذي حدث أن التشديد البالغ على تدريس هاتين اللغتين العظيمتين والرياضيات اقترن عندنا بالكبح التام تقريباً لتدريس اللغة الروسية. وهنا نتساءل: كيف، وبأية وسيلة وبوساطة أية مادة أطفالنا صيغ هاتين اللغتين القديمتين إذا كانت اللغة الروسية في حالة انحطاط أيمكن أن تكون آلية تدريس هاتين اللغتين وحدها (علماً أن المدرسين تشيكيون) هي التي تشكل كل القوة التطويرية التي تمتلكانها! ثم إن هذه الآلية لا يمكن إتقانها إذا لم يجر على التوازي تعليم اللغة الحية تعليماً مشدداً ومعمقاً إلى أقصى حد. وعلى هذا فإن كل القوة المعنوية – التطويرية لهاتين اللغتين القديمتين، لهذين الشكلين اللذين يتجلى فيهما الفكر البشري بأكثر صيغه اقتراباً من الكمال، والذين رفعا الغرب، الذي كان همجياً بأسره، إلى أعلى درجات الرقي والحضارة على مدى قرون، إن كل هذه القوة لا يستفيد منها، طبعاً، نظام التعليم المدرسي عندنا والسبب في ذلك هو، بالذات، انحطاط اللغة الروسية في مدارسنا؛ ولعل الإصلاحيين عندنا قد ارتؤوا أنه لا لزوم لتعليم اللغة الروسية بالمرة، اللهم ما عدا معرفة المواضع التي ينبغي كتابة حروف التقسية” فيها، لأن هذه اللغة تولد مع الطفل. ولكن حقيقة الأمر هي أننا في طبقات المجتمع العليا لم نعد نولد مع اللغة الروسية الحية، وقد بدأ هذا منذ وقت طويل. ولم تعد اللغة الحية تظهر لدينا إلا عند اندماجنا في الشعب اندماجاً كاملاً. ولكن يبدو أنني استطردت في الحديث، إذ كنت قد بدأته بالتكلم مع الأم، ثم انتقلت إلى الحديث عن الإصلاح الكلاسيكي والاندماج في الشعب.
من المضجر للأم طبعاً، أن تصغي إلى كل هذا إنها لتلوح بيدها بغضب وتشيح بوجهها هازئة، إذ لا فرق عندها أياً كانت اللغة التي يفكر بها ابنها، وحبذا أن تكون هذه اللغة هي الباريسية: فهي أجمل وأذكى وأرفع ذوقاً، ولكنها لا تدري أن هذا يتطلب أن يتحول ابنها تحولاً تاماً إلى شخص فرنسي، وهذه السعادة لا يمكن بلوغها بحال من الأحوال، مع الحاضنات والمربين، بل كل ما يمكن تحقيقه هو بلوغ المحطة الأولى على هذه الطريق أي الكف عن أن يكون الطفل روسياً. أوه، إن الأم لا تدري أي سم تدسه لابنها عندما تدعو حاضنة لتربيته وهو في السنة الثانية من عمره. إن كل أم وكل أب يعرفان، على سبيل المثال، تلك العادة الطفلية الجسدية البشعة التي يبدأ بعض الأطفال التعساء يمارسونها وهم في العاشرة تقريباً، و وهي يمكن أن تحولهم أحياناً، في حالة الغفلان عنهم، إلى بله وأشياخ ذاوين واهنين وهم بعد في سن الفتوة وإني لأجرؤ على القول من دون تردد إن الحاضنة الأجنبية، أي اللغة الفرنسية في سن الطفولة المبكرة، ومنذ الثغثغة الأولى، هي، على الصعيد المعنوي، مثيلة لتلك العادة البشعة على الصعيد الجسدي. ويهون الأمر إذا كان الطفل غبياً بطبيعته، أو محدود الفهم بالفطرة؛ إذ إنه في هذه الحالة يعيش حياته مع اللغة الفرنسية وهو لاه، ضحل التفكير، محدود التطور، ويموت من غير أن يلاحظ البتة أنه عاش حياته كلها غبياً. ولكن ماذا إذا كان هذا الإنسان ذا قدرات، ويمتلك في رأسه فكراً وفي قلبه نفحات شهامة، هل يمكن أن يكون سعيداً؟ بما أنه لا يمتلك المادة التي ينظم بها كل عمق أفكاره ومتطلبات روحه، بل يظل طوال حياته يستعمل لغة ميتة، سقيمة، مسروقة، ذات صيغ متهيبة، مستظهرة غليظة، لا تفتح أمامه آفاقاً رحبة، فإنه سيظل أبداً يعاني جهداً مستمراً وتوتراً مفرط، ذهنياً وأخلاقياً عند التعبير عن نفسه، وعما يعتمل في وجدانه، (يا إلهي! أمن الصعب حقاً أن نفهم أن هذه اللغة غير حية وغير طبيعية) إن الشخص نفسه سيلاحظ وهو يتعذب أن تفكيره قاصر، سطحي، صفيق، وأن صفاقته تتأني بالذات من قصوره وسطحيته ومن جراء الصياغات الضحلة التافهة التي ظل طوال الحياة يتجسد بها. وسيلاحظ أخيراً أن قلبه نفسه فاسد والفساد يأتي من الشعور بالوحشة أيضاً. أوه طبعاً، إن مركزه لن يتأثر بهذا فكل هؤلاء الذين يولدون مع الحاضنات تنذرهم أمهاتهم ليكونوا حتماً أبناء الوطن في المستقبل، وليكون لهم حق الإدعاء بأن الوطن لا غنى له عنهم. إن الواحد من هؤلاء سيتألق ويأمر، و يستحث»، و سيفرض الأنظمة، ويكون قادراً على التصرف في الأمور؛ وبكلمة واحدة غالباً ما سيكون راضياً عن نفسه، وخصوصاً عندما سيدلي بأحاديث مستعملاً أفكاراً مستعارة وعبارات مستعارة ولكن إذا كان لديه قدر ولو ضئيل من الإنسانية، فإنه سيكون بالإجمال تعيساً. سيظل على الدوام يشعر بالحسرة بسبب مكابدته نوعاً من الخور، كأولئك الفتيان – الشيوخ الذين يعانون من الشعور بنضوب قواهم قبل الأوان من تلك العادة الشنيعة.
ولكن واأسفاه! أية أم ستصدقني إذا قلت إن كل هذه المصائب يمكن أن تتأتى من اللغة الفرنسية ومن الحاضنة الأجنبية. لدي إحساس مسبق بأن أكثر من أم سيقولون إنني أبالغ؛ في حين أنني، من حيث المغزى الدقيق للتعبير، قد قلت الحقيقة بلا مبالغة. سيعترضن قائلات: إن العكس هو الصحيح، فالأحسن أن يعيش المرء بلغة غير لغته، إذ إن العيش هكذا يصبح أسهل، وأخف، وأمتع، وإن قضايا الحياة ومتطلباتها هذه بالذات يجب تجنبها، واللغة الفرنسية تساعد على تحقيق كل هذا لا بصفتها اللغة الفرنسية، بل بصفتها لغة أجنبية يتم استيعابها وإحلالها محل اللغة الأم. كيف؟ هذا الشاب المتألق هذا الصالوني الفاتن، هذا اللوذعي، سيكون تعيساً؟ بكل هذه الأناقة وهذه التسريحة، وهذه العافية، وهذا اللون الأرستقراطي الذي يكسو محياه، وهذه الوردة البديعة في عروته؟» تتهافت الأم بتعال. في حين أن المثقف الروسي، من دون ذلك أي من دون التربية الفرنسية وحتى في أيامنا هذه، وفي الأكثرية الساحقة من نُسَخه، ليس سوى صعلوك في الفكر؛ إنه كائن ما بلا أرض تحت قدميه، بلا تربة أو مبدأ هجين دولي تتلاعب به جميع الرياح الأوروبية. أما هذا الشخص الذي خرج من تحت أيدي الحاضنات والمربين الأجانب فإنه لن يكون في الجوهر، وحتى في أحسن الحالات، وحتى إذا كانت لديه أفكار ما ومشاعر ما أكثر من شاب بقفازين رائعین ازدرد ربما بضعة مؤلفات أدبية دارجة، لكن عقله ما انفك يهيم في غياهب جهل” أبدي، وقلبه لا يهفو إلّا إلى المال. وأكرر ثانية: إنه سيكون طبعاً، من آباء الوطن؛ وهل يعقل ألا يصل إلى أعلى المراتب الوظيفية؟! ومن غيره إذاً يمكن أن يصل ؟! (إن آباء الوطن يبدؤون خدمتهم عندنا من مرتبة مستشار السر) وهذا كاف حتى الآن بالنسبة إلى الأم؛ ولكنه كاف بالنسبة إليها فقط !
المصدر: يوميات كاتب، دستويفسكي،ترجمة عدنان جاموس، دار أطلس، صفحة ٣٦٥