في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان (كيف يحيا الإنسان) أنقل لكم ماكتب لي يوتانج في فقرة من فقرات كتابه عن فلسفة صينية عريقة تتعلق بالعيش اليومي، والحياتي مبدأها الوسط، والاعتدال في الطموح، الرغبات وفي العمل. ترجم الكتاب للعربية المترجم المرحوم: خيري حماد ونشرته دار الكتاب العربي اللبنانية:

Lin Yutang لي يوتانج : كان مخترعًا ولغويًا وروائيًا وفيلسوفًا ومترجمًا صينيًا.، توفي في عام ١٩٧٦

“ليس لدي شك في أن الفلسفة التي تجمع بين الاستخفاف وبين حياة راحة الضمير، تميل ميلاً شديداُ إلى الخروج بنا من حياة الإفراط في العمل، وتحمل الكثير من المسؤوليات. وتتجه بنا تبعاً لذلك، إلى التقليل من الرغبة بالعمل. يضاف إلى هذا أن الرجل العصري يحتاج إلى هذه الريح المنعشة من الاستخفاف، لأنها لابد أن تحقق له بعض الخير. ولعل الكثير من الأذى يتحقق من الفلسفة الصريحة التي تدفع بالإنسان إلى حياة من النشاطات المبدّدة وغير المُجدِية، أكثر من تحققه عن فلسفات الاستخفاف القديمة والجديدة مجتمعة. وهناك الكثير من الحوافز الفيسيولوجية على العمل عند كل انسان، وهي على استعداد لمقاومة هذه الفلسفة، وبالرغم من شيوع فلسفة التكاسل عند الصينين فما زال الشعب الصيني من أكثر شعوب الأرض جداً ونشاطاً. فهناك حقيقة واقعة وهي أن غالبية الناس لايستطيعون أن يكون يكونوا من المتكاسلين، لأن غالبية الناس ليسوا من الفلاسفة.

فالصينيون في الواقع لايستخِفّون بالحياة، ويميلون إلى الخيال الشعري، إلا عندما يفشلون في الحياة. ومازال الكثيرون منهم رجالاً عاملين بمعنى الكلمة. ولم تترك فلسفة الاستخفاف الطاوية من أثر سوى الإبطاء في غذ الحياة، والإيحاء بالثقة في أوضاع النكبات العامة، وحالات سوء الحكم البشري، وبأن هناك قانونا للفعل ورد الفعل، وأن هذا القانون لابد أن يحقق العدل والإنصاف في النهاية.

ولا أستطيع والحالة هذه أن أرى كبير خطر من تحول الاستخفاف إلى موضة شائعة عند الجميع. ففي الصين حيث تجد الفلسفة الطاوية تجاوباً غريزياً في فؤاد كل صيني، وحيث ظلت هذه الفلسفة تعمل عملها ألوف السنين مطلة علينا في كل قصيد شعري بل وفي كل صورة طبيعية، نجد أن الحياة مازالت تتسم بالمرح، وأن هناك الكثير من الناس يؤمنون بالثراء والشهرة والسلطان، ويتلهفون على العمل في خدمة بلادهم. ولو يكن الوضع على هذا النحو، لما كان على الحياة أن تواصل سيرها. فالصينيون في الواقع لايستخِفّون بالحياة، ويميلون إلى الخيال الشعري، إلا عندما يفشلون في الحياة. ومازال الكثيرون منهم رجالاً عاملين بمعنى الكلمة. ولم تترك فلسفة الاستخفاف الطاوية من أثر سوى الإبطاء في غذ الحياة، والإيحاء بالثقة في أوضاع النكبات العامة، وحالات سوء الحكم البشري، وبأن هناك قانونا للفعل ورد الفعل، وأن هذا القانون لابد أن يحقق العدل والإنصاف في النهاية.

ومع ذلك، فهمناك مؤثر مضاد في الفكر الصيني بصورة عامة، وهو يقف موقف التعارض من هذه الفلسفة الاستخفافية، وأعني به فلسفة ” الأفاق الطبيعي” فهناك فلسفة ” التهذيب الطبيعي” التي تقف متعارضة مع فلسفة ” التهذيب الاجتماعي” وهناك الكونفوشيوسية التي تقف موقف التعرض من الطاوية. ولما كانت الطاوية والكونفوشيوسية تمثلان النظرتين السلبية والايجابية للحياة، فإن هاتين الفلسفتين ليستا مقتصرتين على أصلين وحدها، وإنما تمثلان في الطبيعة الإنسانية، كلها. فالناس جميعا يولدون نصف طاويين ونصف كونفوشيوسين. والنتيجة المطلقة لأي انسان يؤمن إيمانا كاملا بالطاوية، هي أن يمضي إلى الجبال، ليحيا حياة النسك والعزلة، وليقلد إلى أمضى حد ممكن حياة الاستخفاف التي يعيشها الحطاب وصياد السمك، إذ يظن الأول نفسه ملكا على التلال الخضراء، وبينما يعتبر الثاني نفسه مالكا للمياه الزرقاء. ويطل هذا الناسك الطاوي، وهو نصف مختف وراء السحب التي تغطي الجبال، على الحظاب وصياد السمك وهما يتجاذبان أطراف الحديث الذي لاطائل تحته. فيسمع أحدهما يقول إن الخضرة دائمة في التلال، ويسمع ثانيهما يؤكد أن المياه ستستمر في جريانها، دون أن يسمح لهنا برؤياه. ويحس وهو يفكر في هذا الحديث الذي يسمعه بشعور من السلام الكامل. ولكن هذه الفلسفة سيئة مع ذلك لأنها تدعو إلى الفرار من المجتمع الإنساني.

ويقول أحدهم أن الناسك الأعظم هو ناسك المدينة، لأنه وحده قادر على التحكم في نفسه وعلى مواجهة ما يحيط به دون خوف. فهو والحالة هذه الراهب الأعظم

فهناك فلسفة أعظم من هذه الفلسفة الطبيعية، وأعني بها فلسفة الأنسنة. والمثل الأعلى عند الصينين هو ذلك الإنسان الذي لا يهرب من المجتمع الإنساني والحياة الإنسانية ليحتفظ بطبيعته السعيدة الأصلية. فهو إنسان ناسك من الطبقة الثانية، إذا أنه يجمع بين العبودية لبيئته، وبين الرغبة بالفرار من المدن ليحيا حياة العزلة في قمم الجبال. ويقول أحدهم أن الناسك الأعظم هو ناسك المدينة، إذ أنه يجمع بين العبودية لبيئته، وبين الرغبة في الفرار من المدن ليحيا حياة العزلة في قمم الجبال. ويقول أحدهم أن ” الناسك الأعظم هو ناسك المدينة” لأنه وحده قادر على التحكم في نفسه وعلى مواجهة ما يحيط به دون خوف. فهو والحالة هذه ” الراهب الأعظم” الذي يعود إلى المجتمع الإنساني ليطعم ويشرب الخمر، ويلقى النساء، دون أن يمس ذلك روحه بأي أذى. ويتضح من هذا أن في الإمكان الجمع بين الفلسفتين. وليس التناقض بين الكونفوشيوسية والطاوية إلا أمر نسبي، إذ أن العقيدتين، تمثلان الجانبين المتضادين، اللذين تقوم بينهما عدة مراحل متداخلة.

لاريب في أن أنصاف المستخفين، هم أحسن المستخفين بالحياة. ولاريب في أن أسمى طراز في الحياة، هو طراز الحياة التي تتميز (بالتعقل العذب)

ولاريب في أن أنصاف المستخفين، هم أحسن المستخفين بالحياة. ولاريب في أن أسمى طراز في الحياة، هو طراز الحياة التي تتميز (بالتعقل العذب) والتي دعا إليها حفيد كونفوشيوس تسيسي في كتابه (الوسط الذهبي). وليست هناك فلسفة قديمة أو حديثة تعالج مشاكل الحياة الإنسانية، اكشتفت حقيقة أكثر عمقاً من عقيدة هذه الحياة المنظمة التي تقوم وسطاً بين الطرفين المتناقضين، وهي عقيدة (النصف والنصف) أو (كيت وكيت). إنها الحياة المثالية الحكيمة التي اكتشفها الصينيون والتي تتمثل في روح التعقل العذب، والتي تصل إلى الموازنة الكاملة، وبين العمل واللاعمل. والتي تظهر في صورة رجل يعيش نصف مشهور ونصف مغمور. نصف نشيط ونصف متكاسل. ليس من الفقر على تلك الدرجة التي لا تمكنه من دفع ايجار مسكنه، ولا من الغنى بحيث يجد نفسه في غنى عن العمل وعن معونة أصدقائه، يعزف البيانو، ولكن إلى حد ما يرضي خيرة أصدقائه ونفسه. ويجمع المال لكن إلى الحد الذي يكفيه ليس إلا. يقرأ لكن لا يفرط في القراءة، ويتعلم ولكن ليس إلى الحد الذي يجعل منه متخصصا. ويكتب المقالات لصحيفة التايمس، فتنشر بعضها وتهمل البعض الآخر. إنه في الواقع صورة ذلك الانسان الوسط في كل شيء. ولاريب في هذه الصورة هي التي رسمها تسيسي في أنشودته عن (رجل الكيت وكيت) إذ يقول:

” آه من النصف العظيم

الذي رأيته في هذه الحياة المائعة

إن كلمة النصف، كلمة سحرية

لأنها غنية بالمعاني

إنها تأمرنا بأن نتذوق من المرح

أكثر ما نستطيع أن نحظى به

والوسط من كل شيء هو أحسن حالات الانسان

عندما تسمح له خطواته المسترخية بأن يستريح

ويقوم عالم واسع وسطا بين الأرض والسماء

فعليك أن تعيش وسطا بين الأرض والسماء

فعليك أن تعيش وسطا بين المدنية والريف

وأن تكون لك مزرعتك بين الجداول والتلال

ولتكن نصف عالم، ونصف سيد، ونصف تاجر

بل عش حياة وسطا في كل شيء، بين النبل والتواضع

ولتكن ملابسك وسطا بين الجدة والقدم

وليكن بيتك وسطاً بين الأناقة والبساطة

وليكن وسطا بين الأثاث الفاخر ، والأرض العارية

وطعامك وسطاً بين الترف والبساطة

وليكن خدمك وسطاً بين الذكاء والبلادة

ولتكن زوجتك وسطاً بين البساطة والذكاء

فإذا حققت ذلك كنت نصف بوذا الإله

وكنت في الوقت نفسه نصف انسان طاوي

ولتكرس نصف حياتك لأخراك

ونصفها الآخر لدنياك وأولادك

وليكن نصف تفكيرك في التخطيط لذريتك وتأمين معاشها

والنصف الثاني للرد على حساب الله عندما تموت

ونصف السكر هو أعقله وأكثره حكمة

والزهرة نصف المتفتحة هي أجمل الأزاهير

ويكون القارب الشراعي ثابت السير عندما يفتح نصف شراعه

وتركض الجياد أحسن ركضها عندما يكون نصف مشدود

وإذا كنت تملك الكثير سادك القلق

أما إذا كنت تملك القليل جدا، بت متلهفا على التملك

ولما كانت الحياة تجمع بين العذوبة والشقاء

فإن من يتذوق نصفهما يكون أحكم الناس وأكثرهم عقلاً”

ولو سلمنا بأن هناك حاجة إلى وجود عدد من الناس من طراز “السوبرمان” في وسطنا، سواء كانوا من المكتشفين أو المخترعين أو الفاتحين أو الرؤساء الذين يغيرون مجرى التاريخ، فإن الحقيقة تظل قائمة، وهي أن الإنسان الوسط سيكون أسعد الناس. إذا أن موارده القليلة كافية لتأمين استقلاله الاقتصادي، ولأنه بعمله القليل يحقق خدمة للإنسانية، ولأنه بمركزه المتواضع ذو أثر في مجتمعه. ولاريب في أن الحياة الإنسانية تكون أكثر سعادة في هذا الوسط من الجمع بين المتضادين. ومن المزج بين الاستخفاف والجد، وتكون هذه السعادة وسيلة لتحقيق نجاح أكبر. وعلى أي حال، علينا أن نمضي في حياتنا، ولذا فواجبنا يعونا إلى الهبوط بفلسفتنا من السماء إلى الأرض.