أبو المسك كافور الإخشيدي (ت ٣٥٧هـ) شخصية محورية في التاريخ الإسلامي، شغل منصب الوالي والحاكم في مصر والشام بعد أن بدأ حياته عبدًا مملوكًا. وبينما ذاع صيته السياسي والعسكري، فقد كان أيضًا مثار جدل في الأوساط الأدبية، خاصة بعد هجاء المتنبي الشهير له. إلا أن المؤرخين الكبار قدّموا صورة أكثر توازنًا وثراءً عن كافور، تسلط الضوء على عقله وأخلاقه وتديّنه. في هذا النص، نتعرض لكافور في ثلاثة كتب تاريخية، لنرى كيف كانت النظرة التاريخية له نظرة منصفة، معترفة له بكثير من الخصال التي قلما تجتمع في حاكم أو أمير. وهذه الكتب هي ثلاثة: “وفيات الأعيان” لابن خلكان، و”سير أعلام النبلاء” للذهبي، و”النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي.
كافور عند ابن خلكان في كتابه “وفيات الأعيان”
المؤلف: هو شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان، وُلد سنة 608 هـ / 1211 م في أربيل، وتوفي سنة 681 هـ / 1282 م في دمشق. يُعدّ من كبار المؤرخين والقضاة في العصر الإسلامي الوسيط، وكان فقيهًا أصوليًا شافعيًا، تولّى منصب قاضي القضاة بدمشق، وله مكانة رفيعة في الأوساط العلمية والأدبية.
أشهر مؤلفاته هو كتابه الخالد “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، وهو من أعظم كتب التراجم في التراث العربي، حيث جمع فيه تراجم لأعلام الأدب والعلم والسياسة والدين، ورتبها ترتيبًا أبجديًا، وامتاز بدقة التوثيق وجمال الأسلوب.
“لم يبلغ أحد من الخدّام ما بلغ كافور؛ وكان له نظر في العربيّة والأدب والعلم.”
فيما يلي ملخص لأبرز ما ذكره عن كافور:
أولًا: العقل والعلم والفهم “كان كافور عاقلاً، حسن الفهم، جيد المشاركة في العلم، قوي النفس، وكان يحفظ ما يطلع عليه.”
ثانيًا: الأخلاق والعشرة “وكان حسن العشرة، جميل المجالسة، طيب المحاورة، لا يمل جليسه، ولا ينصرف عنه إلا وهو راضٍ عنه.”
ثالثًا: الدين والتقوى “وكان حسن الصلاة، كثير الصدقة، وكان يحضر مجالس الوعظ، ويصلي مع الناس الجمعة والجماعات.”
رابعًا: الشعر والمدح “وأنشد في مدحه جماعة من الشعراء، منهم أبو الطيب المتنبي، وكان قد قصده وهو بالشام، فمدحه وامتدحه.”
خامسًا: أصله ومولده ونشأته “وكان أصله من الزنج، وابتاعه أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد، ورباه…”
سادسًا: توليه الحكم “ولما مات أنوجور تولى بعده أخوه علي بن الإخشيد… وكانت أيامه مشهورة بالعدل.”
سابعًا: مجلسه العلمي والأدبي “وكان مجلسه من أجلِّ المجالس، يحضره العلماء والفضلاء.”
ثامنًا: وفاته “وتوفي يوم الأربعاء ثاني شهر جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، ودفن بجبل المقطم…”
“وكان حسن العشرة، جميل المجالسة، طيب المحاورة، لا يمل جليسه، ولا ينصرف عنه إلا وهو راضٍ عنه.”
كافور الإخشيدي كما وصفه الذهبي في “سير أعلام النبلاء”
في كتابه “سير أعلام النبلاء”، يقدّم الإمام الذهبي صورة شاملة عن كافور الإخشيدي، أحد أبرز القادة في مصر خلال القرن الرابع الهجري، فيمزج بين السمات الشخصية والصفات السياسية والاجتماعية، ويعرض أيضًا للانتقادات التي وُجّهت له، خاصة من المتنبي.
“كَانَ مُلاَزِماً لمصَالِحِ الرَّعيَّةِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ وَيَتَهَجَّدُ، وَيمرِّغُ وَجْهَهُ، وَيَقُوْلُ: اللَّهُمَّ لاَ تُسلِّطْ عليَّ مَخْلُوْقاً.”
وفيما يلي أبرز ما ذكره الذهبي عن كافور:
صفاته الشخصية وسيرته: “كَانَ مُلاَزِماً لمصَالِحِ الرَّعيَّةِ، وَكَانَ يَتَعَبَّدُ وَيَتَهَجَّدُ…”
ثقافته ومجلسه: “وَكَانَ يُقرأُ عِنْدَهُ السَّيرُ وَالدُّولُ… وَكَانَ فَطِناً، يَقِظاً، ذَكِيّاً.”
سياسته ومهارته الدبلوماسية: “يُهَادِي المعزَّ إِلَى الغَرْبِ، وَيُدَارِي وَيخضعُ للمُطِيعِ…”
وفاته: “تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِيْنَ وَثَلاَثِ مائَةٍ…”
هجاء المتنبي: مقاطع مشهورة من هجاء المتنبي لكافور، مثل: “وَمَاذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ … وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا”
حلمه وتدبيره وأيام القحط: “وَقَدْ كَانَ فِي كَافورٍ حلمٌ زَائِدٌ، وَكفٌّ عَنِ الدِّمَاءِ...”
النجوم الزاهرة لابن تغري بردي عن كافور الإخشيدي
المؤلف: هو أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تغري بردي، مؤرخ مصري من المماليك عاش في القرن التاسع الهجري، وُلِد في القاهرة عام 813 هـ وتوفي سنة 874 هـ.
وفيما يلي أبرز ما ذكره المؤلف عن كافور:
كان كافور مدبر الممالك المصرية قبل أن يتولى السلطنة، وتميّز بالحزم والدهاء والكرم، وفاق سلطانه سلطنة مولاه الإخشيد. دان له الأمر بالحيلة والسياسة، وراعى القوى المتصارعة في الشرق والغرب، وأحسن إدارتها.
١. مظاهر من سياسته الداخلية:
- كان يلبس خاتميه في يمينه، فإذا جلس لمجلس المظالم حولهما إلى يساره علامةً على الجدية والصرامة.
- عندما ورد خبر وفاة تكّين والي طبرية، أرسل كافور من يصادر تركته.
- استقبل شكاوى أهل أسوان من ملك النوبة، فأرسل مبعوثًا لمعالجة الأمر.
- واجه اضطرابات في مصر بسبب غلاء الخبز، حيث اشتد الغلاء وطلب الخبز فلم يوجد، حتى ثارت الرعية وكسروا المنبر.
٢. نشاطه الأمني والعسكري:
- أرسل شبيب العقيلي على رأس الحاج المصري، ولما تعرّضت له قبائل بني حرب، حاربهم وأسر منهم رؤوسًا وجاء بها إلى مصر، فكافأه كافور بالخلعة.
- طارد الداعي سلامة الفارّ إلى المغرب لكنه فاته.
- تلقّى شكاوى أهل مكة من نصر العتابي، وقيل إنه هدم قبر عائشة.
- عاقب رجلًا يدعى بكريًا بقطع لسانه.
- كان السودانيون يمازحونه بالقول: “معاوية خال عليّ من هاهنا”، مشيرين إلى آذانهم، في تلميح طريف للون بشرته.
٣. مواقف وعِبر في سيرته:
- كامل، أحد عماله، توفي بعدما اتُّهِم بتوفير أموال من الرواتب، فأصيب بورم في جبينه وهو يحكّه بقلم الدواة، وظل يعاني منه حتى مات بعد مائة يوم.
٤. خصومته مع فاتك الرومي:
- فاتك كان زميلًا سابقًا لكافور، لكنه حسده بعد أن علا شأنه، وطلب السكن في الفيوم ليتفادى رؤية عظمة كافور.
- عاد مريضًا، وتقرّب إليه المتنبي ومدحه بقصيدة اشتهرت، مما أثار حفيظة كافور وأدى إلى القطيعة بينه وبين المتنبي، ثم هجائه لاحقًا.
٥. علاقته بالأدب والعلم:
- كان مجلسه يُقرأ فيه كل ليلة أخبار السير والدول، وله ندماء وجوارٍ مغنيات.
- أحب الأدب والعلم، وكان له معرفة بالنحو واللغة، ومن خدمه النحوي أبو إسحاق النجرمي.
- كان يدني الشعراء ويجيزهم، وله هيبة عظيمة بين الأمراء.
٦. خصائصه الشخصية:
داوم على الجلوس للناس صباحًا ومساءً لقضاء حوائجهم.فيما يلي أبرز ما ذكره المؤلف عن كافور:
قوي البدن، شديد الساعد، لا يستطيع كثيرون مد قوسه.
مغرم بالرماية، وكان يستخدمها لاختبار الرجال.
كان يتهجد ويكثر الدعاء، ويكرر: “اللهم لا تسلط عليّ مخلوقًا”.