هذا نص ورد في المحاضرات المترجمة لبورخيس من ترجمة صالح علماني وإصدرات دار المدى، تحدث في هذه المحاضرة عن الترجمة الحرفية ومنشأها ولماذا يجعلها ضمن أنواع الترجمة الضروري حضورها في الأدب.
النص:
لقد تساءلت على الدوام عن منشأ الترجمات الحرفية. إننا اليوم مناصرون لهذا النوع من الترجمات. وكثيرون نحن الذين لا نتقبل، عملياً، إلا الترجمات الحرفية، لأننا نريد أن نعطي لكل ذي حق حقه. وكان يمكن لهذا أن يبدو جريمة في نظر مترجمي الماضي الذين كانوا يفكرون في شيء يكون أكثر جدارة بكثير. كانوا يريدون أن يثبتوا أن إمكانية اللغة المحلية، في قصيدة عظيمة، لا تقل عن إمكانية اللغة الأصلية. واعتقد أن دون خوان دي خاوريغي، كان يفكر في هذا الأمر بالذات عندما ترجم لو كانو ” إلى الإسبانية. ولست أظن أن أحداً من معاصري بوب كان يفكر في هوميروس وبوب وإنما أفترض أن القراء أفضل القراء على الأقل، كانوا يفكرون في القصيدة نفسها. ماكان يهمهم هو الإلياذة والأوديسة، ولا يعيرون اهتماماً للترهات اللفظية. وخلال العصور الوسطى كلها، لم يكن الناس ينظرون إلى الترجمة بمعنى النقل الحرفي، وإنما كإعادة إبداع شيء جديد: أشبه بعمل شاعر، قرأ عملا ما، وراح يطوره بعد ذلك على طريقته الخاصة، حسب قدراته والإمكانات المعروفة للفته حتى ذلك الحين
أظن أن فكرة الترجمة الحرفية برزت مع ترجمات الكتاب المقدس
ما هو منشأ الترجمات الحرفية إذا؟ لا أظن أنها ظهرت نتيجة التقدم في العلم، ولا أظن أنها ظهرت نتيجة هاجس الدقة.. أعتقد انه كان لها منشأ لاهوتي. فعلى الرغم من أن الناس كانوا يرون ان هوميروس هو أعظم الشعراء، إلا أنهم لا ينسون أن هوميروس هو أعظم الشعراء، إلا أنهم لاينسون أن هوميروس كان بشرا، ويمكن بالتالي أن تتبدل. ولكن عندما صار لا بد من ترجمة الكتاب المقدس، طرحت مسألة شديدة الاختلاف، إذ كان يفترض أن الكتاب المقدس هو من وضع الروح القدس. وعندما نفكر في الروح القدس، عندما نفكر في ذكاء الرب غير المتناهي مرتبطاً بمهمة أدبية، فإننا لا نستطيع أن نتصور وجود عناصر طارئة – عناصر مصادفة – في عمله. لا. فإذا ما كتب الرب كتاباً، إذا ما تفضل الرب على الأدب، فإن كل كلمة، كل حرف، مثلما يقول القباليون، يجب أن يكون قد جاء نتيجة تأمل عميق. ويمكن للتلاعب بالنص الذي صاغه الذكاء غير المحدود والسرمدي أن يكون تجديفاً.
إنّ حسَّنا التاريخي يٌثقل علينا، يُضايقنا أننا نستطيع أن ندرس نصاً قديماً مثلما فعل ذلك رجال العصر الوسيط، أو عصر النهضة، أو حتى القرن الثامن عشر
وهكذا، أظن أن فكرة الترجمة الحرفية برزت مع ترجمات الكتاب المقدس. إنه مجرد افتراض مني (يخيل إلي أن ثمة مختصين كثيرين حاضرين هنا ، ويمكن لهم أن يصححوا لي إذا ما كنت مخطئاً)، ولكنه افتراض اعتبره محتملاً إلى حد بعيد. وعندما تم التوصل إلى ترجمات حرفية باهرة للكتاب المقدس، بدأ البشر يكتشفون…. بدؤوا يفكرون في أن ثمة جمالاً في أساليب التعبير الأجنبية. وصار الجميع اليوم مؤيدين للترجمات الحرفية،
لأن الترجمة الحرفية تستثير فينا على الدوام هزة الدهشة الخفيفة التي تنتظرها وعملياً يمكن القول إنه لا حاجة إلى الأصل، وربما سيأتي الوقت الذي سينظر فيه إلى الترجمة على أنها شيء قائم بذاته. فلنفكر في سوناتات مترجمة عن البرتغالية، لإليزابيث باريت براوننيغ. لقد جربت في إحدى المرات استمارة أقرب لأن تكون جريئة، لكنني أدركت أنها ستكون غير مقبولة لأنها صادرة عني فأنا مجرد معاصر فقط، وهكذا نسبتها إلى فارسي أو اسكندنافي قديم. عندئذ قال أصدقائي إنها مدهشة ولم أخبرهم طبعاً بأنني أنا الذي ابتدعتها، لأنني كنت معجباً بتلك الاستمارة. وكان يمكن، في نهاية المطاف، أن يكون الفرس أو الاسكندنافيون هم من ابتدعوا تلك الاستعارة، أو أخريات غيرها افضل منها بكثير
وهكذا، فلنعد إلى ما قلته فى البداية: إنه لا يمكن الحكم على الترجمة من خلال الألفاظ، وإن كان من الممكن محاكمتها من خلال الألفاظ، ولكنها ليست مجرد ألفاظ على الإطلاق فأنا على سبيل المثال (وأمل ألا تفكروا في أنني أقول تجديفاً)، درست بتمعن شديد لكن هذا حدث منذ أربعين سنة، ويمكنني أن أتعلل بأخطاء الشباب ازهار الشر لبودلير ولستيفان جورج وأعتقد، دون مجال للشك أن بودلير هو شاعر متفوق على ستيفان جورج، غير أن ستيفان جورج كان أكثر براعة حرفية بكثير. وأعتقد أننا إذا ما قارنا الكتابين بيتاً بيتاً، سنكتشف أن «ترجمة Umdichtung ستيفان جورج وهذه كلمة ألمانية جميلة لا تعني قصيدة مترجمة عن أخرى، وإنما قصيدة منسوجة انطلاقاً من قصيدة أخرى ولدينا أيضاً بالألمانية كلمة Nachdichtung “ترجمة حرة” و Übersetzung “ترجمة عادية” أظن أن ترجمة ستيفان جورج قد تكون أفضل من كتاب بودلير. ولكن هذا لا ينفع ستيفان جورج بكل تأكيد، لأن المهتمين ببودلير – وأنا ممن اهتموا كثيراً ببودلير – يدركون أن الكلمات صدرت عن بودلير وهذا يعني أنهم يفكرون في سياق حياة بودلير كلها. أما في حالة ستيفان جورج فلدينا شاعر متمكن، إنما متحذلق بعض الشيء، ينتمي إلى القرن العشرين، ويصوغ كلمات بودلير الأصلية بلغة أجنبية، هي الألمانية.
لقد تحدثت عن الحاضر. وأقول الآن إن حسَّنا التاريخي يٌثقل علينا، يًضايقنا أننا نستطيع أن ندرس نصاً قديماً مثلما فعل ذلك رجال العصر الوسيط، أو عصر النهضة، أو حتى القرن الثامن عشر. نحن اليوم تشغلنا الظروف نريد أن نعرف بالضبط ما الذي كان يرمي إليه هوميروس عندما كتب عن بحر بلون النبيذه، أجل بحر بلون النبيذه هي الترجمة الصحيحة، وهو ما لا أدري حقيقته. ولكن، إذا كانت عقليتنا تاريخية، أظن أنه ربما لا يمكن لنا أن نتصور مجيء يوم لا يكون فيه التاريخ حاضراً في أذهان البشر مثلما هو لدينا سيأتي يوم لا يكون فيه اهتمام البشر كبيراً بأحداث الجمال وظروفه وإنما يهتمون بالجمال لذاته بل قد لا يهتمون بأسماء الشعراء أو سير حياتهم.
وسيكون من دواعي التفاؤل التفكير في أن هناك أمماً بكاملها تفكر بهذه الطريقة. فأنا لا أظن بأن لدى الناس في الهند، مثلاً، حساً تاريخياً. إحدى الصعوبات التي واجهها الأوربيون الذين يكتبون أو كتبوا تواريخ للفلسفة الهندية هي أن الهنود يعتبرون الفلسفة كلها معاصرة هذا يعني أن ما يهمهم هي المسائل نفسها، وليس السير الحياتية أو التواريخ، أو المعطيات الكرونولجية، فكون فلان هو معلم فلان، وكان يكتب متأثرا بكذا، كل هذه الأمور هي مجرد تفاهات في نظرهم مايشغلهم هو لغز الكون وآمل أن البشر، في المستقبل وأرجو أن يكون هذا المستقبل عند منعطف الناصية، سيهتمون بالجمال وليس بظروف الجمال عندئذ ستكون لدينا ترجمات ليست فقط جيدة فهذه صارت متوفرة لدينا وإنما كذلك مشهورة مثل هوميروس شابمان، ورابليه يوركهارت، وأوديسة بوب. وأظن انها ذروة جديرة بأن تكون مرغوبة بورع.