مريم حمّود كاتبة وقاصة شابّة، سألتها في هذا الحوار القصير ١٠ أسئلة حول شخصها، الحياة ،الكتابة والوطن. .

ما الذي يمكن أن تصنعه سرعة الحياة اليوم بالإنسان الكاتب برأيك؟ 

ليس بعيدًا ممّا ستصنعه بغيره. مع أنّي أفكّر كثيرًا في ما إذا كانت الحياة بالفعل سريعةً، أم أنّنا نحن من يُسْرِع في كلّ شيءٍ ثمّ يُسقِط هذه الحالةَ على الحياة؟ الوقت عمومًا كذبة، وإن كان الأمر لَيَبْدُو لي مختلفًا بعض الشيء، إنّنا نحشر الكثير من الأعمال في اليوم الواحد، والكثير أيضًا في الأسبوع والشهر الواحد، وهكذا… ولكي نتمكّن من اللّحاق بكلّ هذا الهراء؛ نبدأ بالرّكض وأداء كلّ شيءٍ على وجه السرعة، ولا نتيجة تُتَوقّع لمثل هذا الفعل سوى التّيه والخسران طبعًا، لن نكمل أيّ شيءٍ كما يجب. لا تنفصل الكتابة عندي عن أيٍّ من هذه الأمور، إنّها جزء أصيل منها، يأتي أخيرًا ليغلّف ويختزل ما سبقه، مثلُ هذا يحتاج تريّثًا وتراتبيّة معتبرةً. 

كيف تحافظين على التركيز؟ في ظلّ هذا التسارع؟ 

ربّما أكون آخر من يفترض به أن يجيب عن هذا السؤال؛ فليست أيامي سوى محاولاتٍ شقيّة للوصول إلى شيءٍ من التركيز. المقرّبون منّي يعرفون كمّ الكوارث التي أقترفها يوميًا بسبب غفلتي ونسياني، مع أنّني صرت أفضَل بقدرٍ كبيرٍ منذ بدأت العمل في مجال التدقيق والتحرير -قبل عامٍ ونصف من الآن- وإن كانت شطارتي أمام الورق والكلمات -كلمات الآخرين تحديدًا- بعيدة كلّ البعد عن شطارتي أمام حياتي وما أكتب، الذين يعملون في هذا المجال يعرفون ذلك جيدًا، يشبه الأمر أن تقف على جبلٍ وتشير إلى هذا وذاك، فتُبيِّن ما لهما وما عليهما، في حين قد لا ترى أين هو موضع قدميك بالضّبط، ولذا يفوتك الكثير ممّا يتعلّق بشأنك الخاص، هذا أمرٌ تحتاج وقتًا لتحلّه وتعرفَ كيف تتعامل معه. إلّا أنّني على الرغم من ذلك ما زلت أحاول. على الأقل أن أتناول طعامي ببطء، وأنشر قصصي ببطء أيضًا.

“ما زلت أحاول. على الأقل أن أتناول طعامي ببطء، وأنشر قصصي ببطء أيضًا.”

في قصة من قصصك المنشورة عبر مجلة الجديد، تحدثت عمّن وصفتهم بأنهم “سُرقت أقدامهم” ثم في نص حديث نشرته مؤخرًا تقولين إنّك تعرفين والدك من خطواته، هل تقرئين شيئًا ما من خطوات المرء أو طريقة سيره؟ 

أقرأ الكثير، وهي قراءة تصيب بقدرِ ما تخطئ. أدّعي أحيانًا أنّني أعرف الموسيقا المفضّلة لأحدهم من خلال النّظر إلى مشيته، قد لا يكون ما أقوله سوى تدليسٍ وزورٍ، وهذا أمرٌ متوقّع، فما أكثره حولنا. إنّ الذين تُسرق أقدامهم يُسلَبونَ الحياة، أيّ خيارٍ يبقى لك إذا لم تتمكّن من اختيار طريقك بنفسك؟ تصبح مكرّسًا تتبَع ما يشار عليك به، ولن ينفعك حينها لا خوفك ولا تردّدك ولا حتّى صراحتك في الرّفض، هذا ما حاولت قوله في النص الأول المنشور عبر مجلة الجديد، ولي نصٌ آخر سيعاد نشره قريبًا يحكي شيئًا مشابهًا، فتاةٌ تُقْطَع قدماها وتُحبَس، وإن كان الفعل مختلفًا فهو مرّةً سرقَة ومرّةً قطعٌ، إلّا أنّ النتيجة واحدة، أحاول في عددٍ غير قليل من النصوص التي أكتبها أن أمعن في الإشارة إلى الذات والهوية، وهذا بالضبط ما يدفع بي إلى اللّجوءِ إلى رمزيّة الخطوات أو القدمين. أمّا النص الذي كتبته عن أبي فهو مشهد لحالةٍ ظلَلْتُ أتأمّلها أعوامًا طويلة، منذ الطفولة وإلى اليوم، أظنّه واحدًا من تلك المشاهد التي أراهن أنّها سترافقني دائمًا.

كاتبٌ ما، من أين يأتي بالأفكار؟ كيف تأتي مريم بأفكار لقصصها ونصوصها؟

من كلّ مكانٍ ومن كلّ شيءٍ، لا يوجد مكانٌ محدّد لفكرة ما، بل إنّها قد تُغرَم بي أنا مثلًا فتأتيني منقادةً مرحّبة. أنا على الأقل لا أعرف مكانًا بعينه يأتي المرء بالأفكار منه، وأرجو من أي شخصٍ يقرأ حوارنا هذا، ويعرف مكانًا محدّدًا للتّزوّد بالأفكار، أن يكرمني بإرسال الموقع في أسرع وقت.

يبدو النشر الإلكتروني اليوم سهلًا وغير مكلف، لماذا يصرّ الكُتّاب على الاستفادة المادّيّة من كتبهم؟ هل يكتبون للعائد؟ 

النشر الإلكتروني سهلٌ نعم، لكنّه يحتاج حظًا ووقتًا واجتهادًا، وما أكثر المغمورين المستَحقّين للقراءة. أمّا الكتّاب فلا أجد أنهم يصرّون على الاستفادة المادية، إنّما هو أمر طبيعي، فمثلما نشتري المثلّجات من الدّكان، لا بدّ أن نشتري الكتب من المكتبات، ولا أخفيك أنّ الاستفادة المادية تظلّ قليلة مقارنة بالأرباح التي تحقّقها دور النشر، أنا تحديدًا أشعر بالعداء تجاه دور النشر العربية والعبث الذي يقوم به عددٌ غير قليلٍ من الناشرين، هم أنفسهم يعرفون ذلك. المهمّ أنّ مطالبة الكاتب بحقّه الماليّ ليست إصرارًا بقدر ما هي حقٌ مشروعٌ ومطلَب، النشر صناعة تؤثّر في الاقتصاد وتتأثر به. أمّا عن الكتابة لأجل العائد فهي موضوع بعيدٌ عن تجربتي القصيرة المحدودة.

“أشعر بالعداء تجاه دور النشر العربية والعبث الذي يقوم به عددٌ غير قليلٍ من الناشرين”

كيف تقاومين تشابه الأيام، أو هل تتشابه بالنسبة إليك؟ 

أظنّ أنّني أعيش يومًا واحدًا منذ ولدت، الأمر الوحيد الذي ينقذني منه هو أنّ أيامًا قليلةً ثائرةً تداهمه بين الحين والآخر؛ فتُضعِفُه. مع ذلك فأنا متصالحةٌ معه. يكفينا القليل أحيانًا، العافية والهدوء.

برأيك هل تفيد الأنا الكاتب؟ أو فلنقل هل غرور الكاتب ينعكس بالإيجاب على عمله؟

الأنا في الكتابة -كما أفهمها- تحتمل وجهين اثنين: حضور الكاتب نفسه في نصوصه، وهذا شأن متعلّق بالنص ذاته ومحتواه. والأنا التي أظنّك قصدتها في سؤالك، وهي عندي تقديره لما يكتب. الوجه الأول مهم بالنسبة لي ولا بدّ منه، فبه يكون الأسلوب وتكون الطّريقة. والثاني أيضًا مهم لا غنى عنه، إذ من خلاله يتحقّق وعي الكاتب بما يقدّم. وأنا عندما أقول (تقديره لما يكتب) لا أعني أن يهلكنا بالتّطبيل لنفسه، بل أن يقدّر ما يكتب كما يجب، فيعرف جيِّدَه من سيِّئه.

الأنا في الكتابة -كما أفهمها- تحتمل وجهين اثنين: حضور الكاتب نفسه في نصوصه، وهذا شأن متعلّق بالنص ذاته ومحتواه. والأناالمتمثلة في تقديره لما يكتب

كيف تغذين ذائقتك؟ أي المصادر أكثر إشباعًا بالنسبة إلى مريم؟ 

بكلّ ما تحقّقت فيه الأصالة وابتعد عن التّكلف، مهما كانت هيئته أو صفته.

لماذا تعاني الثقافة في بلداننا من قلة الجاذبية؟ لماذا لا يحبها الناس؟ 

لأنّهم يقرنون الثقافة باحتساء القهوة، ولأنّ المثقف يتحدّث عن كلّ شيءٍ سوى ما يفترض به الحديث عنه. الكتب وحدها دون فعلٍ حقيقيٍ لا تحيي ولا تميت… الأمر أثقل على قلبي من أن أفصّل فيه.

تصفه مايا أنجلو: “أينما كنت، أنت تحمله معك، هو تحت أظافرك، وفي جريبات شعرك، وفي طريقة تبسمك، في رحلة أردافك.” بالنسبة إليك ما هو تعريف الوطن أو كيف تصفينه؟

كان الوطن وهْمًا أحنّ إليه حتى زرته مع أهلي في إجازةٍ قصيرةٍ عندما كنت في التاسعة، كان هذا قبل أربعة عشر عامًا، ثم غادرته، وظللت أمنّي نفسي أنّي سأعود إليه، لكنّ هذا لم يحدث قطّ. كان يمكن أن أستمرّ في التمنّي والرّجاء، لكنّني فقدت أكثر الذين أحبّهم هناك، أجدادي وآخرين مقرّبين مني، ولست أعرف معنى للوطن دونهم، وهذا بالضبط ما خفته منذ الزيارة الأولى اليتيمة، ربّما لم أحسن قطّ التعبير عن الأمر، لكنّني أعرف أنّي أدركته تمامًا يوم سمعت فؤاد سالم يتغنّى متألّمًا:

(خايف لا العمر يقضي وخوفي ما نوصل وطنّا/ ولا وصـــــلـــــنــــا هناك نلقى خلصانـه أهلنا)

لكنّني فكّرت كثيرًا ونظرت إلى الأمر بشيءٍ من الأمل الذي يقول عنه كورتاثار إنّ مردّه إلى الحياة، فهوَ هيَ إذ تدافع عن نفسها؛ ربّما لأنّني أنا أيضًا حاولت الدّفاع عن حياتي، فحاولت أن أصنع لي وطنًا في مكانٍ آخر، لكنّ الأمر أصعب بكثيرٍ ممّا أصفه، والعالم لا يعترف بما تكونه، بل بما تقوله الوثائق والمستندات عنك. مع ذلك أحبّ أن أفكّر في الأمر من خلال عدسة اللغة، إذ كثيرًا ما خطر عليَّ أن الوطنَ الحقّ مكانٌ تنتصر فيه لغةٌ واحدةٌ، تنشأ عليها فتعرف بها والديك وإخوتك وصحبك، تبيع بها وتشتري وتتعلّم من خلالها، تنصرك إذ تنتصر عليك. أفكر في هذا، ويخطر ببالي أنني لم أكن يومًا في الوطن ولن أكون، فما أبعده وأنا أعيش الشتات بين لهجتين ولغتين لا أمان لأيّ منهن. يعني من الآخر، عدنا للوهم الذي بدأنا منه.

كثيرًا ما خطر عليَّ أن الوطنَ الحقّ مكانٌ تنتصر فيه لغةٌ واحدةٌ