يتناول د.عبدالله الغذامي في كتابه المشترك:” نقد ثقافي أم نقد أدبي” موضوع الحب في الأدب العربي. يقول الغذامي بأن الحب لم يكن موضوعا رئيسياً في كل أشكال الأدب العربي، وأنه لم يؤخذ بجدية ولم يعتبر أبدا غرضاً أدبياً مستقلاً. لفتة نقدية حرية بالتأمل أنقلها لكم هنا.
“يبرز خطاب الحب في الثقافة العربية، وكأنما هو خطاب في التفاني في الآخر، وتبدو عليه المثالية والصدق والوفاء، وهو في ظاهره خطاب مناف للفحولية وينم عن نوع راق من العلاقة بين الجنسين، فيه احترام وإجلال للمرأة وإخلاص في العلاقة معها وترفيع لمنزلتها، مما هو نقيض للفحولة الطاغية كما وصفناها في المبحث السابق وما أنه كذلك فإنه ينقض الشعرنة ويؤسس لخطاب إنساني مختلف. هذا هو ظاهر الأمر، ولكن المحزن أن هذا ظاهر، فحسب، وليس هو جوهر الخطاب ولا هي حقيقته.
وأول الأشياء الملاحظة هنا هو موقف الثقافة من خطاب الحب، لقد كانوا يرون أن شعر الحب ليس من سمات الفحولة، وإذا وصفوا شاعراً بالفحل فإنهم يقصرون هذا على شعراء المديح، والهجاء والفخر، وهذه عندهم هي فنون الفحول، أما المتغزل عندهم ربع فحل، أو ربع شاعر، وليس في طليعة الاهتمام والتقدير، هذا من حيث الحكم النقدي التصنيفي على الناتج الثقافي.
أما لو دخلنا في خطاب الحب نفسه، فإن مانجده في هذا الخطاب هو ارتباطه بحال من النفي الدائمة، فالحب عندهم جنون، وهو موت، وهو فقدان للرجولة كما هو فقدان للعقل، وهو أشبه مايكون بمؤامرة ضد الفحولة، والمرء إذا أحب فإنه يتأنث، كما وصفوا الغزل بأنه التخلق بأخلاق النساء، وقاموا بذم الهوى والنعي على من عشق. وكل قصص الحب وحكاياته وأشعاره والمرويات فيه، تشير الى أن العشق بمثابة كارثة تصيب الرجل، وهو يصرع ذا اللب حتى لاحراك به، وهن الذين قتلننا ثم لم يحين قتلانا، والمرأة تصرع الجبار، إلى كل ما هنالك من ذم مبطن للحب.
الحب عندهم جنون، وهو موت، وهو فقدان للرجولة كما هو فقدان للعقل، وهو أشبه مايكون بمؤامرة ضد الفحولة، والمرء إذا أحب فإنه يتأنث، كما وصفوا الغزل بأنه التخلق بأخلاق النساء
وفي مقابل ذلك فإن النظام الاجتماعي يمنع الحب من أن يكون سبباً للزواج، وكلما شاع خبر حب بين محبين فإن النتيجة هي في منعهما من الزواج، وهذا معناه أن الثقافة لاترى الحب أصلاً إنسانياً واجتماعياً. كما أن القصص والمرويات تؤكد وهمية حكايات الحب، وقد روى أبو الفرج في الأغاني أن حكاية مجنون ليلى كانت ملفقة ولم تكن حقيقية، وفي بعض رواياته ماينص على الاستهزاء بالقصة وتسفيه أحداثها. كما أن الروايات تؤكد كذب قصص بعض الشعراء ممن شاع حبهم وشعرهم الغزلي من مثل كثير عزة الذي قالوا إنه يتقول في حبه وفي غزله بعزة، وكثيراً ما يجري فصل بين الحب والمحبوب، حتى ليكون التغني بالحب هو للجمال البلاغي واللعب المجازي، وترد أسماء المحبوبات لتكملة الوزن، بل إننا لنجد أسماء المعشوقات في التراث العربي هي واحدة مكررة من مثل ليلى وهند و دعد و لبن، مما يشير إلى نمط مجازي أكثر مما هو نمط واقعي، بل إن المتنبي استهزأ بالحب وتساءل في كلمة بالغة الدلالة في نسقيتها: أكل فصيحٍ قال شعراً متيمُ؟ وهو يشير هنا إلى أن التغزل لعبة مجازية، تأتي لتزيين الكلام وافتتاح القول به، ولقد صرح بذلك النقاد وقالوا إن التشبيب يأتي لتفتح النفوس إلى سماع شعر المديح أو غيره من الأغراض، ولم يكن الحب غرضا رئيساً، بل إن قصيدة (يا ليل الصب) كانت قصيدة في المديح، ولم يكن الغزل فيها حقيقيا، وإنما هو افتتاح تزييني بلاغي، وهي مع هذا من أشهر قصائدنا، وعليها من المعارضات ما يبلغ المئات، وكل معارضاتها لعب بلاغية. وهذا يدل على أن أهم خطاب في الثقافة العربية، أي خطاب الحب، هو خطاب مجازي، ولم يتمكن من التوثق في الذات الثقافية ولم يتحول إلى صورة مسلكية ونمط في العلاقة الاجتماعية والإنسانية، والسؤال هو: لماذا؟
أسماء المعشوقات في التراث العربي هي واحدة مكررة من مثل ليلى وهند و دعد و لبن، مما يشير إلى نمط مجازي أكثر مما هو نمط واقعي
نحيل السبب في هذا الأمر إلى كون النسق الثقافي المهيمن هوالنسق الفحولي، وبما أنه كذلك فإن هذا النسق يتوسل بكل الوسائل الممكنة لكي يمنع قيام خطاب مضاد، وكل خطاب تتبدى فيه علامات کسرالنسق الفحولي تجري دوماً محاصرته وتضييق مجاله، بل تشويهه، كما حدث لخطاب الحب، الذي تحول من خطاب في التفاني في الآخر وفي المساواة في العلاقة الإنسانية، مما هو نقيض النسق الفحولي، غير أن الثقافة، عبر حراسها وعبر حیلها النسقية المحكمة، تمكنت من تشويه خطاب الحب، وإظهاره بمظهر الخطاب غير الفعال وغير الحقيقي، وتحويله إلى مجاز و متخيل جمالي، لا واقع له، ولا تمثل تقيمه.
وكما حدث في تجيير خطاب الحب و شعرنته، فإن خطاب الحداثة العربية ما إن نشأ على يد امرأة هي نازك الملائكة، وبدأ مشروع في تأنيث القصيدة العربية، وبرز شعراء ذكور يؤسسون الحداثة العربية، وبدأ مشروع في تأنيث القصيدة العربية، وبرز شعراء ذكور يؤسسون لنسق جدید إنساني ومناهض للفحولة، كالسیاب، ما إن ظهر ذلك حتى توسلت الثقافة بحراسها وأظهرت لنا شعراء أعادوا تفحيل القصيدة، واستعادوا قيم النسق الفحولي المتشعرن، مثل أدونيس، الذي يبدو على السطح حداثيا تنويريا، غير أنه شاعر نسقي فحولي، وعبر هذا لم تعد الحداثة مشروع تغيير، بل صارت مشروع تنسيق (أي غرس النسق وتعزيزه كما كان أو أكثر)، وهذه كلها دلالات على طريقة مسار النسق وتمرکزه، حتى ليقضي على كل محاولة للخروج عليه.”