الشيخ ولد نوح روائي وشاعر موريتاني، أجريت معه هذا الحوار بتاريخ 23/3/2021
لمن يكتب الشيخ ولد نوح “آخر الغرقى، متفاقم الفوضى”؟
أولا أشكركم على إتاحة الفرصة لتسويد بعض البياضات هنا..
رداً على السؤال، فإنني أرى أن الكتابة كعمل يختلط فيه الوعي باللاوعي فعل يصعب تبريره، ليس فقط بوصف الجريمة الإبداعية المكتملة الأركان لا تحتاج إلى سبق إصرار وترصد، وإنما أيضا لأن الدوافع الباطنية لهذا الفعل الجمالي تظل عصية على الإدراك بشكل كلي، وإن كانت هناك خيوط يمكن الإمساك بها في رحلتنا نحو التشتت. في رحلتنا للبحث عن المنبع الأول.
هذا ربما ما يجعلني أزعم أنني أكتب -والجواب هنا على السؤال: لماذا تكتب؟ وليس لمن- سعيا إلى احتلال مساحة شخصية تكفي لإشباع أنانيتي وتبرير صدفة الوجود أصلا؛ ذلك أن عملية الكتابة برمتها فعل فردي ملطخ بالجماعة، أو تجليات جماعية في جبة الفردي.
ما الذي تعلمته من تجربتك الروائية الأولى ” أدباي” ولماذا قررت أن تستمر؟
الرواية في كنهها عمل تراكمي، وليست قرارا فجائيا. مرة غامر ماركيز وقال إنها “لا تكتب إلا بعد الأربعين”. ربما يجدر بي أن أقول إنني حاولت أن أجمع بتركيز بعضا مما تعلمته خلال العقود الثلاثة الأولى من حياتي بين دفتي كتاب، جاء بالصدفة على شكل رواية في البداية، ثم تحول بعد الصفحات الخمسين الأولى إلى عمل مقصود ومؤامرة إبداعية. ولدي عملان روائيان جاهزان للنشر أحدهما بعنوان “القاسم ولد الحسين” سأنشره خلال الأشهر القليلة القادمة، والآخر أتركه للمفاجأة. كما أن لدي ثلاثة أعمال شعرية سأعمل على نشرها هذه السنة إن شاء الله.
أما بشأن الاستمرار، فأعتقد أن العبارة أعلاه “جمع بعض مما تعلمته بين دفتي كتاب” قد تكون جزء كبيرا من الجواب. لقد انتبهت إلى أن لي ذاكرة تخزن ترسانة من الأحداث والمواقف والأفكار، والتي تحدث ضجيجا مستمرا فيها، فقررت أن أقاسم البياض هذه العوالم التي لا تهدأ.
ضِيفي إلى هذا المعطى الأنانية الفنية للكتاب؛ والتي تجعلهم يحلمون دوما بتجاوز أنفسهم كل مرة، فيظل الواحد منهم يلهث خلف العمل الفني الحلم؛ ذلك أن كل عمل فني هو حلقة من العمل الفني الشامل الذي يكتبه الكاتب.
هناك من يرى أن الكاتب في طموحه إلى العمل الحلم لا يكتب إلا عملا واحدا مستمرا وإن تعددت كتبه، وبهذا يكون كل كتاب حلقة من سلسلة العمل الشامل، إلى أن يصل إلى المنحدر أو الموت الإبداعي أو التكرار، أو إلى غاية الوصول إلى الموت البيولوجي.
وربما هذا سر العلاقة المتوترة بين المبدعين والموت؛ إذ قد لا يكون هذا التوتر راجعا إلى الرغبة الفطرية والغريزية في الحياة، بل قد يعود إلى اعتقاد المبدع أن لديه ما لم يقله بعد ويريد قوله. يشبه هذا الأمر تعبير “الكأس ما قبل الأخيرة” الذي نحته الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في حديثه عن المشروبات الكحولية.
ما الذي يجعل المثقف العربي يتوارى عن المواجهة ويخشى الصدام.. يفكر بطريقة لائقة أو معتادة، هل هي سلطة المجتمع؟
قد لا أشاطرك أصلا هذا الحكم التعميمي والقاسي. ودعيني أرى الأمر من زاويتي لأطرح السؤال التالي (ما هي الكوابح التي تعترض طريق الكاتب العربي؟)، لا يمكن الإجابة على هذا السؤال دون أن نتذكر العبارة الشهيرة التي تنسب ليوسف السباعي “كل الحريات الموجودة في العالم العربي لا تكفي لكاتب واحد”. إذن سؤال الحرية والاستبداد والقيود، هو السؤال المركزي بالنسبة للكاتب العربي. هل هو حر؟.. هل هناك مؤسسات تدافع عن حريته وتساعده في مواجهة الظلام الذي يسحب ذيوله كجرادة خرافية على المشهد العربي؟..
هل يمكن سماع صوت
هذا الكاتب، حتى لو توفر هذا الدعم، وسط لعلعة الرصاص وأصوات البنادق وعويل
الثكالى وبكاءات الأيتام؟
أليس الكاتب مثقلا بأطنان من الماضي الميت والذي تصر قوى كثيرة ومتحكمة على أن لا
يدفن؟.
هذا الكلام لا يعني أن الكاتب لا يتحمل جزء من المسؤولية، بل هناك كُتاب تحملوا
أكثر مما يحتملون، ودفعوا دماءهم وأحزانهم الشاسعة ضريبة؛ لأنهم يريدون أن يظلوا
أحرارا.
كما أن هذا الكلام لا يعني أنه لا توجد مساحة من الحرية يمكن استغلالها واللعب فيها بذكاء، بما يخدم الأدب والفن والحرية.
الكاتب يواجه كل
السلط، ويحاول أن يقتطع لنفسه مساحة من الحرية وسط كل هذا الخراب والتناقض في هذه
اللحظة التاريخية التي أعتقد أنها مصيرية، وسيكون لمخاضاتها تأثيرات هائلة على
المستقبل الأفضل الذي نراه يتشكل وإن ببطء.
هل يمكن للكاتب العربي اليوم الاعتماد على ما يكتب فقط؟ أم أن دور الكاتب سيكون دائما عملاً ثانياً في حياة الكُتاب؟
مؤخرا على الفيسبوك كنت أتابع الصديق الروائي السوري الكبير جان دوست، صاحب القلب المفتوح، والذي تحدث بمرارة عن استغلال دور النشر للكُتاب، وهي امتعاضات نسمعها من وقت لآخر وتعبر عن مأزق جدي وإشكالية حقيقية.
لا شك أن ما يهم دور النشر العربية بالدرجة الأولى هو الكسب المالي على حساب الكاتب. فكيف لكاتب في مثل هذه الظروف أن يستطيع الاعتماد على الكتابة كمصدر رزق؟.. مايا أنجيلو الشاعرة والمؤلفة الأميريكية المشهورة باعت خلال يوم واحد أكثر من مليون نسخة من نصها “على نبضات الفجر” على ما أذكر. هل هناك ديوان في العالم العربي يطبع منه أكثر من بضع مئات من النسخ؟. صحيح هناك إقبال معين على الرواية، ولكن الكاتب كما أسلفت يظل الحلقة الأضعف والطرف الأقل استفادة مادية.
ما الذي يمكن أن تصنعه سرعة الحياة اليوم بالإنسان الكاتب برأيك؟
أعتقد أن السرعة
لا تعني بالضرورة السيولة. هذه السرعة تطبعها درجة عالية من التكثيف؛ وبالتالي فإن
ما كان يحتاج لسنة مثلا لكي نحققه معرفيا أصبح الآن بالإمكان تحقيقه في ظرف أوجز
بكثير.
الكاتب في هذه الدوامة يجب أن يتلطخ قدر الإمكان بالواقع ويتشبع به، سواء كان يريد
معاداة هذا الواقع أو مصادقته.
الزمن الثقافي ليس مفصولا عن الزمن السياسي أو الاقتصادي أو العلمي في تقديري. مثلا ما يقوم به عالم الاجتماع الفرنسي أدغار موران، وإن كان يندرج في إطار النقد الجذري الذي أنحاز إليه لعالمنا ولما يحكمه من تناقضات، إلا أنه مبني على تشبع عظيم بالواقع وليس على مجرد حكم عليه أو انطباع حوله من الخارج.
كاتبٌ ما، من أين يأتي بالأفكار؟ كيف تأتي بأفكار قصائدك ونصوصك وما الذي يلهمك؟
بالنسبة لهذا “الكاتب ما”، فإنه لا يمكنني أن أخمن من أين يجلب أفكاره. قرأت لبعضهم مثلا يقول إن الأفكار تأتيه أكثر ما تزوره حين يكون في المرحاض. وقبل فترة وجيزة أخبرتني كاتبة مبتدئة أنها حين كانت في لحظة شجار وتشابك بالأيدي مع إحداهن، أو لحظة الاعتداء عليها على الأصح، وخزتها تلك الإبرة التي تجعلك تحس وكأن عصفورا يخربش في جمجمتك، وكانت لحظة إلهام. إذن ربما لكل كاتب منبع خاص للأفكار.
أما بالنسبة لي، فإن المصدر الأول الرئيسي والواعي لما أكتب هو تجاربي الشخصية والاجتماعية ومكابداتي المعرفية وروافدي الفكرية. ومع وجود كل هذه النسبية إلا أن هناك إجماع ما بأن مصادر الكتابة يختلط فيها الوعي باللاوعي.
هل تأخذ الجوائز الأدبية بجدية؟ كيف كانت تجربتك في الفوز بجائزة جائزة أفضل قصيدة مكتوبة باللغة العربية من مؤسسة متحف أمير الشعراء أحمد شوقي؟
الجوائز الأدبية
تختلف؛ فمنها السياسي ومنها المسيس ومنها أيضا الجوائز المحترمة التي تعني فعلا
تتويجا لعمر إبداعي في مرحلة معينة.
بالنسبة لجائزة أحمد شوقي، فإن أجمل ما فيها، وهي جائزة معنوية أساسا، هو أن
القائمين عليها هم من يختارون النصوص التي يرشحونها، وتأتي دائما بشكل مفاجئ
وجميل، وإن كنت أرى أنها لم تأخذ ما تستحقه بعدُ من بعدٍ إعلامي وزخم.
وظيفتي هي أن أكتب ولا أنتظر شيئا من أحد.. حين يصدر العمل فقد انفصلت مشيمته من جسدي وهنا أدعه يكمل دورة حياته بشكل طبيعي.
برأيك هل تفيد الأنا الكاتب؟ أو فلنقل هل غرور الكاتب ينعكس بالإيجاب على عمله؟
عموما لا أفهم المعنى السلبي للتكبر إلا من وجهة نظر علم النفس؛ بوصفه ميغالومينيا، أما أن يعلي المرء من شأنه، وقد يكون ذلك بالبساطة، دون المساس بقيمة الآخرين بشكل سلبي، فهذا تصرف جمالي ينتمي إلى الفن بامتياز، ويكرس صورة مغايرة للصورة التي تجعل الإبداع رديفا للاستعلاء الأجوف وكل المفردات الخارجة من مشكاة الأحاسيس البدائية والتمثلات الميغالومينية، أو يجعله استدعاء لتواضع زائف ومتكلف يضمر عكسه أكثر مما يعبر عن مظهره.
وفي اعتقادي أن الإبداع في حد ذاته تضخم. المبدع مشروع إله صغير والفن خلق لكون مواز. إلا أن كثيرين لا يدركون أن ذلك يجب أن يكون فقط في داخل العمل الفني ذاته وليس خارجه. المبدع الحقيقي بسيط في الحياة، وغاطس في كل ما يغرق أثناء لحظته الفنية.
المبدع متواضع في اليومي ومتكبر في النص، وحين يكون عكس ذلك فلأنه كذلك في الحقيقة.
ثقافتنا المحلية الموريتانية مبنية على مقولات وتمثلات فولكلورية وتراثية وعلى أنماط ميتة من التفكير ما قبل الحداثي. يكفي أن تدرك ما تحيل إليه هذه المصطلحات (حقوق الإنسان، المساواة، العدالة الاجتماعية، الحداثة، والدولة) من استدعاءات لأفكار سلبية ومعارضة حدية، لتتبين حجم الخلل البنيوي في العقل والتفكير.
يقال إن دور الثوري الأول الهدم لا البناء، هل تحاول هدم أي مسلمات ثقافية أو فنية في تجربتك الأدبية؟
نحن بحاجة إلى هدم الكثير من الأوهام، وتاريخ البشرية عبارة عن صيرورة مستمرة من الهدم، ولا شك أن الهدم يوقظ شهية البناء.
ثقافتنا المحلية الموريتانية مبنية على مقولات وتمثلات فولكلورية وتراثية وعلى أنماط ميتة من التفكير ما قبل الحداثي. يكفي أن تدرك ما تحيل إليه هذه المصطلحات (حقوق الإنسان، المساواة، العدالة الاجتماعية، الحداثة، والدولة) من استدعاءات لأفكار سلبية ومعارضة حدية، لتتبين حجم الخلل البنيوي في العقل والتفكير.
قبل سنة تقريبا تم توقيفي في إحدى المفوضيات بشكل عشوائي وظالم، كما يحدث مع الإنسان دوما في هذا الفضاء المهدور فيه إنسانيته. لقد صعقت عندما قال لي ضابط الشرطة (اسمع.. هذا المكان ليس مكانا لاحترام حقوق الإنسان. من يبحث عن حقوق الإنسان فعليه أن يتفادى الدخول إلى هذا القفص).
يُسأل القراء دائما عما ينتظرون من كاتبهم المفضل، لكنني أسأل الآن ماذا ينتظر الشيخ من قارئه؟
وظيفتي هي أن أكتب ولا أنتظر شيئا من
أحد.. حين يصدر العمل فقد انفصلت مشيمته من جسدي وهنا أدعه يكمل دورة حياته بشكل
طبيعي.
أمس اتصل بي أحدهم على رقم هاتفي، وقدم نفسه على أنه من “البيظان البيظ”
على حد تعبيره، ثم قال لي (لقد قرأت روايتكم أدباي، وأرى أنكم تحاملتم على البيظان
البيظ) ثم سكت. أجبته ( حسنا.. هذا رأيك وأحترمه، فما المطلوب مني؟) أجاب بأنه
يريد أن يناقشني على الهاتف. قلت له إن هذا عمل إبداعي وليس مقال رأي، وبأن عليه
أن يكتب رأيه وينشره؛ لأن له كامل الحرية في قراءة العمل بانفصال عني. فقطع
الاتصال.
الكاتب دائما في قفص الاتهام، وعليه الاعتياد على ذلك، حتى تتم إدانته (ابتسامة).