هذه ترجمة حصرية لمقالة الكاتب ستيف الموند Confessions of a Failed Novelist

 التي نشرت على مجلة (Poets & writers) بتاريخ فبراير 2022 وبترجمتي أنا هند الصبار، بعد أن حصلت على الإذن من الكاتب. وجدت أنها تحكي بصدق بعض هموم الكاتب فيما يتعلق بالرواية، وهاأنا أنقلها إليكم بترجمتي المتواضعة

قبل عشرين سنة، نشرت قصةً تُدعى (رواية لارسن) حبكتها كانت بسيطة: رجلٌ يدعى لارسن، يعرض على صديقه المقرب الذي يدعى فليِمْ، قراءة روايته التي كتبها، يقضي فليمْ بقية القصة يختلق الاعتذار للتهرب من قراءتها.

من الصعب لوم فليمْ، رواية لارسن كانت تتبع مآثر ريد لارسن ” طبيب لثة مع روح فنان موسيقي”. وربما عرض مقتطفات منها قد يوحي لكم بالمستوى الذي قدمته :

صاحت روزيتا ستون: ” لم أتعرض قط للإهانة في حياتي” وعيناها تحمر من الغضب..

–   ” ماذا فعلت؟ قال ريد، وعيناه مثل عيني غزال انعكس عليها الضوء

لكن الإجابة الوحيدة التي حصل عليها كانت صفعة الباب التي كانت كصوت رعد يهز القلب.

كنت مستمتعاً بكتابة القصة، لكن رواية لارسن كانت أيضاً اعتراف خفي. قبل كتابتها، كتبت بنفسي روايةً أخرى بقدر بؤسها. وأرسلتها للقراءة والمراجعة إلى بعض أصدقائي غير المحظوظين، أرسلت هذا العمل الفظيع إليهم. وإلى، وكيل نشر قضى 6 أشهر قبل أن يخبرني في 40 ثانية أنه من الأفضل ألا أتواصل معه مرة أخرى.

ربما أكون فريداً من نوعي، لكنني أظن أن هناك المئات، إن لم يكن الألوف، من الكُتاب الذين تؤوي أدراجُ مكاتبهم وأقراص أجهزتهم رواية واحدة مثل لارسن أو اثنتين أو ثلاث. نحن نشكل أكبر جمعية سرية في عالم الأدب.

تمنيت أنها كانت أول رواية فاشلة لي، لكنها كانت الثالثة. كتبت واحدة في آخر عشرينياتي، قبل التحاقي ببرنامج دراسة الفنون والكتابة الابداعية MFA جربت مرة ثانية. وفي المجمل، كتبت خمس روايات بقيت -لحسن الحظ- غير منشورة.

ربما أكون فريداً من نوعي، لكنني أظن أن هناك المئات، إن لم يكن الألوف، من الكُتاب الذين تؤوي أدراجُ مكاتبهم وأقراص أجهزتهم رواية واحدة مثل لارسن أو اثنتين أو ثلاث. نحن نشكل أكبر جمعية سرية في عالم الأدب.

بغض النظر عن أنني نشرت العديد من الكتب، قضيت معظم حياتي العملية أصف نفسي بأنني روائيٌ فاشل. وشخصياً لا أنصح بتقييم الذات بهذه الطريقة لأنها تجر إلى المازوخية وجلد الذات والتي هي صفات لصيقة بالنرجسية. لكنني أود مشاركتكم رؤية استغرق مني فهمها ثلاثة عقود. رواياتي التي فشلت كانت مركزية في حياتي ككاتب.

لا أطالب الكتاب بقضاء سنوات من الكد والعمل على مشاريع كتابية عقيمة. بل قلت منذ وقت مبكر أن نجاح رواياتي التجاري ليس المقياس الوحيد لقيمتها. هذا هو الاتجاه السائد في عالم النشر، التنافسي والغزير. دائما ما أفكر بأننا نحن الكتاب نشبه عدد من الأشقاء الذين يجاهدون للفت انتباه والدين مُشتتين يعيشان في نيويورك.

عندما ينجح أحد الكتاب، يراقب البقية نجاحهم في غموض يحيط بالتجربة، جعلت وسائل التواصل الاجتماعي عملية بث ونشر  هذه الانتصارات أسرع بكثير. أصبحنا متحمسين لبناء منصاتنا وصقل علاماتنا التجارية الشخصية. النتيجة هي أننا مجبرون على إخفاء أية إخفاقات مررنا بها لنُضلل أقراننا من الكُتاب ونتركهم غارقين في دهشتهم.

لكن في لحظة هادئة، حظيت بفرصة أن أنظر لما هو أبعد من ندمي.  عاكساً عبارة توماس أديسون على واقعي: ” أنا لم أفشل في كتابة رواية، أنا اكتشفت ألف طريقة لعدم كتابة رواية”. درسي الأساسي كان أنه لكتابة رواية على نمط ” السيرة الذاتية” يتطلب الأمر انعكاساً عميقاً للذات.

لكن كما يحدث للكُتّاب في بداية حياتهما العملية عندما يقعون في فخ ” اكتب عما تعرف”. لم أضع في عقلي أن أبطال روايتي منفصلون عني تماماَ. لقد كانوا منتجات صنعتها دهشتي باللغة لا مخيلتي.

أول روايتين لي، الأولى كانت عن مراسلة شابة غير محترفة، والثانية عن أستاذ مساعد غير كفؤ. عكست الروايتان التنقيب في المجالين المهنيين الوحيدين اللذين أعرفهما. لكن كما يحدث للكتاب في بداية حياتهما العملية يقعون في فخ ” اكتب عما تعرف”. لم أضع في عقلي أن أبطال روايتي منفصلون عني تماماَ. لقد كانوا منتجات صنعتها دهشتي باللغة لا مخيلتي.

واستراتيجيتي في السرد، إن أمكن وصفها، كانت القفز إلى رؤوس الأبطال والبقاء هناك. وبين كل مشهد والآخر كانوا يُلقون تعليقاً ذكياً. لم يكن للروايات سياق مفصل، أو قل كان السياق يفترض ذكاء القارئ. ليس هناك بالتأكيد خطأ في كتابة الروايات القائمة على الخيال وحده. بالتأكيد لدي روايات مفضلة من هذا النوع مثلا رواية مارغيت دوراس (العشيق) Marguerite Duras’s The Lover (Les Éditions de Minuit, 1984) أو رواية اوشن فونغ Ocean Vuong’s On Earth We’re Briefly Gorgeous (Penguin Press, 2019) . لكن سرد دوراس وفونغ نجح لأنهم رواة يشاركون في البحث عن معنى ما عاشوه في حياتهم. أنا بكل بساطة لم أكن على استعداد لعمل عاطفي مماثل لمواجهة يأسي ورغبتي الأحادية فوق كل تهريجي. بدلاً من ذلك، طوقت القارئ بما اعتقدت أنه سحر. لم أكن لأستطع أن استخلص هذا في سنواتي التي كنت أعمل فيها على أول روايتين. لكنني فقط علمت أن الكتب تخشى الأماكن الضيقة والتشويش. قررت أن يكون كتابي القادم ملحمة تاريخية.

في الكلية كنت قد تعرفت على الشخصية اليهودية التاريخية شابتاي تسفي Shabbatai Zvi أشهر متنبئ كاذب في التاريخ اليهودي. لقد وجدت في حياته الشخصية المثالية لكتابة رواية. كان يمثل حبكة لايمكن تفويتها، لأضيف عليها من براعتي النثرية.

اليوم أستطيع أن أرى بوضوح أنني كنت أحاول أن أخلق بطلاً يشبهني. أغرقت نفسي في البحث، لكي أعيد خلق العالم الذي عاش فيه شاباتي بكل إخلاص لإبهار قارئ اليوم. لكن الروايات قد تنجح فقط إذا استطاع المؤلف أن يصنع الدراما  في الفوضى داخل شخصياته. ولم تكن لدي فكرة كيف يرى هذا اليهودي المتدين- بروحه المعذبة المتشكلة من أنواع غريبة من التصوف- العالم. لذلك كان علي أن أدفع الرجل المسكين إلى بلاد الشام في ثلاث سنوات و850 صفحة آملا أن يواجه المعضلات الأكبر قيمة: الحب، الفقد، الصراعات الداخلية والوحي. لكن لم يحدث ذلك.

بعد كل مشروع ونص لم يكتب له النجاح، كنت أجمع نفسي، وأعود لحبي الأول، القصص القصيرة، والمشاريع غير الروائية. كان الدرس الذي علي تعلمه هو أهمية تقبلك ككاتب لحدودك عندما تحاول توسيعها. لأنني فقط لم أوفق في الصنف الروائي لا يعني أنني لا أستطيع كتابة أنواع أخرى من الكتب.

بعد كارثة الملحمة التاريخية الفاشلة، أطلقت رواية كانت عكس الروايات العظيمة التي تخيلتها، صحافي يتجول في عالم من الحلوى. كانت فكرة قادمة من طفولتي. في هذا الوقت رأيت الكتاب كدليل على ضعفي. افتقدت الصبر والإيمان بالنفس لأن أصبح روائياً.

عدم قدرتي على كتابة رواية قابلة للنشر ساعدتني في الواقع على التخلص من الزهو الأدبي الذي كان يعيقني

أنا الآن أنظر للأمر بكرم، عدم قدرتي على كتابة رواية قابلة للنشر ساعدتني في الواقع على التخلص من الزهو الأدبي الذي كان يعيقني. بدلاً من سؤال نفسي: ماهو الكتاب الذي يجب أن أكتبه؟ صرت أسأل نفسي ماهو الكتاب الذي أود أن أكتبه؟

تدور روايتي الرابعة في عالم مألوف جدا بالنسبة لي، إذاعة حوارية رياضية. كنت أحاول أن أجد رابطاً بين ثقافة المشجعين مع خصائصها العدوانية، الحماسية، مظالمها واستحقاقاتها مع المشروع الأمريكي للنزعة العسكرية. كانت الرواية تختبر مزيجاً من: الإحساس بالهدف، لهجة فكاهية، عالم واقعي، وقائد غير فعال.

أفرطت في التصحيح في روايتي التالية، مستخدماً وجهة نظر شخص ديماغوجي قرر الترشح للرئاسة. كان هذا قبل خمس سنوات من الانتخابات الرئاسية، التي ستشهد حرباً كلامية ونزولاً في المستوى الخطابي، لكن بطلي كان رجل مواقف، يعرف كيف يلف ويدور ويسرع في إنهاء المسائل.

لكن السرعة ليست هي التوجه. إعادة قراءة هذين الكتابين مؤخراً، أدركت أن الخطأ اللذان تشاركاه كان: حبكة ملتوية احتوت على أجزاء ثابتة و حركة صعود.  

هذا هو أصعب مافي الموضوع، والأمر البعيد مناله في كتابة الرواية: الحفاظ على الزخم على طول الرواية. وهو أكثر حساسية في حالة كتاب القصة القصيرة، لقد اعتدنا على قالب محدد: عدد أحرف أقل، إطار زمني أقل، إعداد للفكرة و مكافاءة لنفسك بعد 5000 كلمة.

تتطلب بنية الرواية إنشاء رهانات لجميع شخصياتك الرئيسية بالإضافة إلى مسارات متقاطعة ومترابطة في نفس الوقت. قد يؤدي الأسلوب و الصوت إلى بداية قوية. لكن الروائيين يحتاجون مخطط للكتابة وشعور بإلحاح المهمة في نفس الوقت.

لا يكفي المشاهد أن تكون ممتعة، يجب أن يتم تصعيد التوتر والتحريض الموجه للأفعال. يحدث شيء، ليحدث شيء آخر، بدون سلسلة واضحة من النتائج يُترك القارئ تائها في دوامة.

المشكلة الثانية في هذه الكتب والتي هي أكثر أهمية، عند كل مشروع كانت لدي فكرة واضحة عما أريد أن أقول، لم أعرف أبطالي بشكل عميق، كان لدي فقط إحساس بما يريدونه من عالمهم. لكنني لم أحدد صراعاتهم الداخلية التي كونتهم قبل ظهورهم على الورق. ولا فهمت هذه الصراعات كموضوع رئيسي لروايتي. وقد أخذت مني بعد ذلك سنوات لأفهم أن هذين العيبين متشابكان. أن مهمة الروائى هي بناء حبكة تزيح الحيل التي تخفي بها الشخصيات صراعاتهم الداخلية.

وعندما أعدت اختبار مشاهدي، رأيت في كثير من الأحيان أنني كنت أجنّبهم فضح فشلهم في معرفة ذواتهم. وظيفتي الأساسية اتضح أنها ليست فقط هندسة الفوضى وإنما دفع شخصياتي برحمة أو بدونها إلى حقيقة إنفسهم.  

بدخولي الخمسين، كان مازال لدي اعتقاد أنني لن أصبح كاتباً جيداً حتى أكتب رواية. بعض من هذا نشأ عن التوقعات التجارية والنقدية التي يواجهها كل كتاب القصة القصيرة. وبعضها له علاقة بتاريخي العائلي (أنا أصغر طفل في العائلة لوالدين يقدسان الروائيين). أيّاً كان السبب، فقد تجلى في قلق ساحق.

عندما اقترح أحد أصدقائي أنني لا أرغب حقاً في كتابة رواية، تعجبت. لكنه كان على حق. لم أرغب في أن أكتب رواية، رغبت في أن أكون روائيا. كبريائى امتص كل الاهتمام الذي تحتاجه شخصياتي.

ولذلك قبل حوالي خمس سنوات، استسلمت، لم أتوقف عن الكتابة، لكنني تقبلت فكرة أنني لن أكتب رواية تستحق النشر أبداً.

على الأقل مرة واحدة، شرعت في العمل على قصة بين عائلتين، واحدة غنية والأخرى فقيرة، مرتبطتين بقضية قتل مزعومة. وكلما كتبت أكثر، كلما كشفت شخصياتي عن أسرار أكثر. وكلما توسع نطاق القصة، نمت وشملت كل شيء من الجنس الوحشي، إلى الهجرة غير الشرعية، إلى الصفات البيولوجية للعقرب.

الأهم من هذا، فكرت طويلاً وبشكل مركز في الانقسامات الخاصة التي تعصف بكل شخصية وكيف يمكن للقصة أن تُظهرها. البطل الرئيسي مثلا، كانت فتاة مراهقة عبقرية قيب لها طوال حياتها أن تظل غير مرئية. كانت تتألم عند رؤيتها، وملاحظتها أو حتى عن أنها مرغوبة. أخلت هذه الوضعية بتوازن حياتها وعرضت حياة عائلتها للخطر. 

علِقت في مرات كثيرة، لكنني لم أتوتر، لأنني -بشكل عام- كنت قادرا على تشخيص المشكلة من جهد سابق. عندما تبدأ الحبكة تميل، كنت أقص من المشاهد، عندما أجد نفسي أسرع بطريقة أريد أن أهرب بها من اللحظات الخطيرة، كنت أتباطأ عمداً حتى أشعر بوخز وألم الكشف عن الذات.  

قمت بتجنيد راوٍ متمكن ليترأس الأحداث وليعطي تفسيراته. لاحقاً، عندما شعرت بأن تعليق الرواي أصبح تدخلياً، تخليت عن كل ماقام به. و مابقي بعد ذلك هو جوهر وأساس كل رواية اجتماعية: الاصطدام القوي لمن يملك القوة مع المجردين منها.

كتبت حتى فهمت كل شخصياتي، حتى الشخصيات الحقيرة منهم. وأشتاق كل يوم للعودة إلى عالمهم. كانت النتيجة كاب بالطبع بعيد عن الكمال. لكنني أستطعت أن أجرب من خلاله النجاح، بعيداً عن المعايير التجارية.

عندما أفكر في علاقتي المتطورة مع رواياتي غير المنشورة، يأتي على بالي هو مقطع فيديو سخيف أهرب به دائما من إكمال كتابة رواية. يظهر الفيديو قطة تحاول القفز إلى سطح قريب، رسم شخص ما معادلات فوق رأس القطة في الفيديو، بحيث يبدو أنها تحسب زاويتها وتسارعها بدقة، بعد ذلك تقفز القطة قفزة لاتوصلها إلى السطح وأبعد منه بمسافة ميل، ثم تتوارى خارج إطار الفيديو.

كروائي شعرت بشعور هذه القطة دائماً، السبب في النهاية أنني وصلت للسطح لايعني أنني أصبحت أقوى أو أكثرَ مهارة، لكنني أصبحت أكثر تواضعاً قبل أن أبدأ أي مهمة. وبالتالي أكثر صبراً، وتسامحاً مع ذاتي، وقدرة على اكتشاف أخطائى بدون الوقوع تحت شرك الشك الذاتي. باختصار: وصلت إلى السطح – بعد ثلاثة عقود طويلة- لأنني قفزت من فوق جبل من اخفاقاتي.

ستيف الموند.

ألف اثنا عشر كتابًا روائيًا وواقعيًا، بعضهم كان من الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز مثل Candyfreak و  Against Football

 المصدر https://www.scribd.com/article/559937193/Confessions-Of-A-Failed-Novelist 

موقع الكاتب: https://stevealmondjoy.org/

موقع المجلة: https://www.pw.org/