مقال للكاتب المصري نجيب محفوظ بعنوان: السينما وسوء السمعة، نشر 1977م تمت إعادة نشره في كتاب من إصدار الدار المصرية اللبنانية، بعنوان حول الثقافة والتعليم.
أريد أن أتحدث حديث ذا شجون، عن الفيلم المصري. وأعني به الفيلم الجاد. والجاد فقط، لا إغفالا لبقية الأفلام، ولكن لأن الأفلام الهابطة، موضوعاً وشكلاً ممهدة الطريق، موفورة الرزق. وقلّ أن تلقى في سبِيلها أي نوع من المتاعب. من النادر أن يعنى بها النّقْد، والأندر أن تواجه معارضة رسمية أو احتجاجاً من ذوي الغيرة على سمعة الوطن. الفيلم الجاد يمثل عادة مغامرة فكرية ومغامرة اقتصادية. وهو يعلم من بادئ الأمر أنه يتحدى قوى لا قِبل له بها، فيتوثب لخوض معركة دفاعية في الرقابة، وهو يخشى أن تنصرف الأذواق عنه إيثاراً للتسلية والمتعة. فيزود نفسه أحياناً بتوابل جنسية.
وبالصراحة والصدق لا يسعني الدفاع عن التوابل الجنسية، إنها مسيئة للأخلاق ومؤذية للحياء.
وبالصراحة والصدق لا يسعني الدفاع عن التوابل الجنسية، إنها مسيئة للأخلاق ومؤذية للحياء. مزرية بالفن كما ينبغي له أن يكون. بل إنها محفرة الجنس كقوة إنسانية هامة يجب أن تعالج إذا ما دعت ضرورة إلى علاجها بالجدية والاحترام، لا بالإثارة الرخيصة الفن الذي يعمد إلى الإثارة في طلب النجاح فنٌ رخيص. الفن القوي يحقق ذاته بالفكر والأسلوب والبلاغة. ونصيحتي إلى الزملاء من أهل الفن السينمائي أن يترفعوا عن الأغراء صوناً لدورهم كقادة للفكر ودعاة للمثل الأعلى ورواد كاشفين في طريق الفن والحقيقة. ولا عبرة هنا بما ينتج من أفلام في بلاد أخرى، فلكل مجتمع مُثُلهُ ورُؤاه وأذواقه وحسبنا أن ندرس جوانبها التكتيكية والفكرية، وأن فيد منها ما نشاء دون عدوان على أصالتنا الحقيقية. وإني لأتساءل عن دور الرقابة في ذلك ومسؤوليتها عنه. إنها قادرة على تطهير الفيلم من أي شائبة، خاصة وهو يعرض أخيرا كفيلم. وقد حتم القانون ذلك ليحمي الجمهور من ناحية، وليحمي صاحب الفيلم من التعرض لخسائر فجائية من ناحية أخرى. والرقابة تشمل جهازها الأصلي، ولجنة عليا من أهل الفكر، ولجنة أخرى من المختصين للتصدير. ويعبر صاحب الفيلم تلك الحواجز فيعرض فيلمه هانئ البال، ولكن ما إن يرتفع صوت بحق أو بغير حق حتى يجد نفسه وماله وفيلمه في قبضة لجنة جديدة. وأن عليه أن يواجه الامتحان من جديد مع فارق واحد هذه المرة، وهو أنه أنفق بالفعل خمسين أو ستين أو سبعين ألفاً من الجنيهات! فهل ياترى كانت الرقابة تستدرجه لتخربه؟ وكيف يثق في هذه الحال بالرقابة أو بوزارة الثقافة التي تتبعها الرقابة؟ وهل يجب أن يذهب إلى هيئة أمم أو مجلس أمن ليطمئن على عمله وماله؟
هذه ناحية، أما الناحية الأخرى، فهي أن الفيلم الجاد يهتم بنقد المجتمع فيما يهتم به من أهداف اجتماعية وإنسانية. ونحن في حال من المعاناة الاجتماعية في أمس الحاجة إلى النوع النقدي، بل يوجد من ينادون بالالتزام به كواجب وطني عاجل. غير أن الفيلم النقدي يصطدم بعقبات لا يستهان بها منها:
- احتجاج الهيئات والطوائف التي تتتعرض للنقد، وقد استطاعت في الماضي أن تصون ذواتها بالرقابة، فلم يجد الفيلم المصري من ينقده ويعهد إليه بدور الشرير إلا بلطجية الملاهي، واقتصرت الأفلام فترة على صراعات وهمية أو هامشية بين العشاق والبلطجية، غير أن الثورة حطمت -فيما حطمت- قضبان الرقابة القديمة، وأفسحت مجال النقد إفساحاً مجحموداً، كان من نتائجه خلق عدد وفير من الأفلام الجادة التي تكشف عن الجانب القبيح المجتمع بغية الإصلاح والتطوير.
- توهم بعض الناس الطيبين أن في إظهار العيوب إساءة إلى سمعة المجتمع في الداخل والخارج، وأن الأولى بنا إظهار الجميل والصالح كدعاية حسنة لنا ولوطننا. ولو صح هذا المنطق لوجب قياساً عليه أن نلغي المعارضة في مجلس الشعب، وهي مصدقة أكثر من أي فيلم، ولوجب أن نلغي حرية الصحافة، بل وربما استحسن أن نطالب. الشرطة والنيابة بتجاهل المنحرفين لنجتث سوء السمعة من جذورها. والحق أن الفيلم المقتحم الجريء الناقد يحقق بفنه ومضمونه من حسن السمعة مالا يخطر ببال الكثيرين. فهو آية على الثقة بالنفس والرغبة الحقيقية في الإصلاح، وهو آية على أنه مصنوع في وطن حر يقدس الحرية والكرامة، وأما العيوب التي يعرضها فأي وطن يخلو من العيوب؟ وقد شاهدنا الكثير من أفلام الواقعية الجديدة الإيطالية، ومن الأُفلام الأمريكية الحديثة، رأينا الاتهامات توجه بعنف للحكومات والعلماء والمربين، بل توجه إلى رجال القضاء والدين، ولم يطلعنا النقد على عيوب جديدة لم نعهدها في وطننا وفي جميع الأوطان، ولكنه قدم لنا أمثلة من الحرية الفكرية والشجاعة الأدبية والسماحة الرسمية يندر أن توجد إلا في الأمم المتقدمة فعلا.
وبعد فإن السينما الجادة سلاح وواجب واقتحام. وهي تؤدي واجبها بالأفلام النقدية والوطنية والإنسانية. وأفلامها تضرب في مجال آخر غير مجال الأفلام السياحية والإعلانية والإعلامية. وأملي أن نكون جديرين بالفن الجاد، وأن نقف من النقد – في أي مجال- موقف الأقوياء.