القارىء لسيرة الجاحظ ومؤلفاته لا يستطيع معرفة وجهة نظره عن المرأة بالتحديد، فموضوع المرأة عنده كأي موضوع من الموضوعات التي ينقل عنها ويستشهد بالأقوال فيها والمأثورات في شأنها، ولاتكاد تعرف هل يؤيد الجاحظ مثلاً عادات عصره في حجر النساء و تغييبهن و  تجهِيلِهن العمْدي و عَزْلِهّن عن ساحة المشاركة السياسيةِ والفكرية؟ أم أنه يرى مكانةَ أخرىً للنساء توائِم روح عصره، أم أن موضوع النساء لم يثر انتباه الجاحظ ولم يشكل حتى مادة للتفكير والتحليل التي سخرها لكل شيء حتى خاض في شؤون الفئران والنمل وشتى أنواع الدواب والحشرات.  غير أن ما لفتني في مطالعتي لبعض مؤلفاته والتي ينقل و يستشهد فيها بأقوال تنهي عن تعليم المرأة، ويطرح في موضع آخر رأياً في  الوصاية على المرأة كما في موضوع الحمام الذي سيأتيكم، أو في موضوع جمال المرأة وكيف يجب أن تكون والتي يقدم فيها الأحكام حول معايير الجمال وشكل المرأة المثالي بالنسبة للمعايير المجتمعية آنذاك، مالفتني أنك تجده في أحايين أخرى يؤكد مكانه المرأة ويفضلها حتى على الرجل، لكنه في ذات الوقت يستمد هذه المكانة من الرجل نفسه، الذي هو مصدر كل قيمة و القاضي الوحيد في عالمٍٍ يعيشه الجاحظ. أنقل لكم بعض هذه الشواهد من ثلاثة مصنفات تنسب للجاحظ، هي كتاب البيان والتبيين، وكتاب الحيوان، وكتاب رسائل الجاحظ، وسأُذيل هذه المشاركات بتفاصيل المراجع. 

النهي عن تعليم المرأة وتجنيب الصبيان محادثة النساء 

ورد في كتاب البيان والتبيين للحاحظ فصل في التوصية بعدم تعليم البنات، في معرض الحديث عن ماهو الأفضل في تعليم الصبية، وماهي العلوم التي يجب أن يتم تعليمهم إياها. 

“أبو الحسن قال : قال الحجاج لمعلم ولده: «علم ولدي السباحة قبل الكتابة، فإنهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم». أبو عقيل بن درست قال : رأيت أبا هاشم الصوفي مقبلاً من جهة النهر فقلت له : «في أي شيء كنت اليوم؟» قال: «في تعليم ما ليس ينسى، وليس لشيء من الحيوان عنه غنى». قال: قلت «وما ذلك؟» قال: «السباحة» . حدثنا علي بن محمد وغيره قال : كتب عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه ـ إلى ساكني الأمصار: «أما بعد فعلموا أولادكم السباحة والفروسية، ورؤوهم ما سار من المثل وحسن من الشعر». وقال ابن التوم : «علم أبنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أكسب من الكتاب ، ومؤنة تعلمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر». وكان يقال : «لا تعلموا بناتكم الكتاب ولا ترووهن الشعر، و علموهن القرآن، ومن القرآن سورة النور». وقال آخر، «بنو فلان يعجبهم أن يكون في نسائهم أباضيات، ويؤخذون بحفظ سورة النور». وكان أبن التؤم يقول: «من تمام ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء أن يعلمه الكتاب والحساب والسباحة» .

قال : وقال عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدب ولده : «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبخت . وعلمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه. ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وتهددهم بي وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء. وجنبهم محادثة النساء. وأستزدني بزيادتك إياهم أزدك. وإياك أن تتكل على عذر مني لك وروهم سير الحكماء فقد أتكلت على كفاية منك، وزذ في تأديبهم أزدْك في بري إن شاء الله تعالى”

عن مكانة المرأة عند الرجل ومنزلتها في المجتمع 

في كتاب رسائل الجاحظ، يصف لنا مكانة النساء ومنزلتهن، مستحضراً مكانتهن لدى الرجال فيقول: 

“والمرأة أيضا أرفع حالا من الرجل في أمور. منها: أنها التي تخطب و تُراد، وتُعشق و تُطلب، وهي التي تُفدى و تُحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيُفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطانا، والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن!

ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه، وبالمشي إلى بيت الله، وبصدقة ماله، وعتق رقيقه. فيسهل ذلك عليه(۳)، ولا يأنف منه. فإن أستخلف بطلاق امرأته تربد وجهه، وطار الغضب في دماغه، ويمتنع(5) و يعصي، ويغضب ويأبى، وإن كان المخلف سلطانا مهيبا، ولو لم يكن يحبها، ولا يستكثر منها، وكانت نفسها قبيحة المنظر، دقيقة الحسب، خفيفة الصداق، قليلة النّسب. ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج 

ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إنّ النّساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر ، ولكنّا رأينا ناسا يزرون عليهن أشد الزراية، و يحتقرونهن أشد الاحتقار، و يبخسونهن أكثر حقوقهن. وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن. ولولا أن ناسا يفخرون بالجلد وقوة المئة، وانصراف النفس عن حب النّساء، حتّى جعلوا شدة حب الرجل لأمته، وزوجته وولده، دليلا على الضعف، وبابا من الخور، لما تكلفنا كثيرا مما شرطناه في هذا الكتاب 

علِّةُ حظوة الإماء 

قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من أكثر المهيرات (التي تعطى المهر من الحرائر): أن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل كل شيء منها وعرفه، ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم” على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنّما يستشار في جمالها النّساء، والنساء لا ينصرن من جمال النساء وحاجات الرجال و موافقتهن قليلا ولا كثيرا. والرجال بالنساء أبصر. وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهر الصفة، وأن الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنّها لا تعرف ذلك. وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف، وكأن عينها عين غزال، وكأن عنقها إبريق فضة، وكأن ساقها جمارة، وكأن شعرها العناقيد، وكأن أطرافها المداري” وما أشبه ذلك. وهناك أسباب أخر بها يكون الحب والبغض. 

ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة، في جملة القول في الرجال والنساء، أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة. وليس ينبغي لمن عظم حقوق الآباء أن يصغر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات. وأنا وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم

عن الجمال الممدوح في النساء 

ورأيت أكثر الناس من البُصراء بجواهر النساء، الذين هم جهابذة هذا الأمر، يقدمون المجدُولة، والمجدُولة من النساء تكون في منزلة بين السّمينة و الممشوقة. ولا بد من جودة القد، وحسن الخرط، واعتدال المنكبين، واستواء الظهر، ولابد أن تكون كاسية العظام، بين الممتلئة و القضيفة. وإنما يريدون بقولهم: مجدُولة، جودة العصب، وقلة الاسترخاء، وأن تكون سليمة من الزوائد والفضول. وكذلك قالوا: خمصانة وسيفانة، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان، وكأنها قضيب خيزران. و التثنى في مشيها أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة، وذات الفضول والزوائد. على أنّ النّحافة في المجدولة أعم، وهي بهذا المعنى أعرف، تُحبب على السمان الضخام، وعلى الممشوقات و القضاف، كما يحبب هذه الأصناف على المجدولات،  ووصفوا المجدولة بالكلام  المنثور فقالوا: “أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب”

نهي عن إدخال الحْمَامِ على النساء

ورد في كتاب الحيوان حديثٌ للجاحظ ينهى فيه الرجال عن إدخال طيور الحمام إلى النساء لسبب يدعو للعجب، ويحيل السبب فيه إلى أن الحمام نوع من الطيور الذي يثير الغرائز، وهو رأي فيه شيء من التطرف حسب رأيي، ويعلل الجاحظ ويشرح أنواع النساء في هذا الشأن فإما امرأة أرملة والمُغيبة التي غاب عنها زوجها و التي طال لبثها مع زوجها، والابكار الغريرات و هن في كل أحوالهن يخاف عليهن،  ويخشى عليهن حسب الجاحظ. 

“و ماأكثر من الرجال من ليس يمنعه من إدخال الحْمَام إلى نسائه إلا هذا الشيء الذي حث عليه صاحب الفِراسة( وهو يقصد رجل أدخل الحْمَام على امرأته التي تتمنع عنه لكي ترى مايفعله الحْمَام ) وذلك أن تلك الرؤية قد تُذَّكر وتُشهَّي وتمحن. وأكثر النساء ثلاثةُ أحوال: إما امرأة قد مات زوجها فتحريك طباعها خطار بأمانها وعفافها. والمُغيبة في مثل هذا المعنى.  والثالثة امرأة قد طال لبثها مع زوجها، فقد ذهب الاستظراف وماتت الشهوة. فإذا رأت ذلك تحرك منها كل ساكن وذكرت ماكانت عنه بمندوحة. 

والمرأة سليمة الدين والعرض والقلب مالم تهجس في صدرها الخواطر، ولم تتوهم حالات اللذة وتحرُّك الشهوة. فإذا ماوقع ذلك فعزمها أضعف العزم، وعزمها على ركوب الهوى أقوى العزم. 

فأما الأبكار الغريرات فهن إلى أن يؤخذن بالقراءة في المصحف، ويحتال لهن حتى يصرن إلى حال التشييخ (والمراد أن تطرأ عليهن طباع الشيخوخة ومالها من ركانة وتزمت) والجبن والكزازة وحتى لا يسمعن من أحاديث الباهِ والغزل قليلاً ولا كثيراً أحوجُ. 

المصادر 

الحيوان، طبعة دار إحياء التراث العربي، الجزء الثالث ، صفحة ٢٩١

كتاب البيان والتبيين، المكتبة العصرية، تحقيق ة. درويش جويدي صفحة ٣١٩ 

كتاب رسائل الجاحظ (القسم الأول الفصول المختارة من كتب الجاحظ اختيار الإمام عبيدالله بن حسان)، الجزء ٣-٤، مكتبة ابن سينا، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، صفحة ١٠٥