تحدث المحقق عبود الشالجي في تقديمه لكتاب الرسالة البغدادية لأبي حيان التوحيدي عن قضية الوضع والتزوير في أعمال التوحيدي، وهو حديث حري بالتأمل وصادم بعض الشيء لمؤلف من المُكثرين الذي ألفوا ونبغوا واشتهروا ، وربما يسلط الضوء على ظاهرة من شبه المسكوت عنها في التراث العربي هي ظاهرة السرقات الأدبية
اختلف المؤرّخين بشأن التوحيدي فيما روى، وهل كان وضَّاعاً مختلفاً، أو ثبتاً حافظاً، فإن أكثر المؤرخين اتهموه بالوضع وكان أكثر هم رفقاً به، الدكتور محيي الدين، إذ اعترف بأنه وضاع وحاول أن يجد له عذراً في الوضع، فقال ، بعد أن أثبت أقوال من اتهمه بالوضع: ما كان أبو حيان راوية نص لا يعدوه، بل كان كاتباً يخضع لضرورات التصوير والتعبير، فان كان الافتعال الذي يصمونه به من هذا النوع، فلا سبيل إلى تبرثته منه، والدكتور يؤيد المؤرخين في كونه وضَّاعاً، ولكنه يعتبره من الوضع الذي لا يقدح في دينه، وأنا لا اؤيده فيما ذهب إليه، فإن الوضع وضع، وقد ضرب أبو حيان على الوضع والتزوير، وأصبح له به ولع عجيب، فطن له كل من قرأ رسائله من الفضلاء، وهو لبراعته، ولطيف توصله، إذا زور رسالة من الرسائل، و خبراً من الاخبار، أوهم كثيراً ممن يقرأه أو يستمع اليه، انه خبر صحيح، وهذا من اخطر ألوان التزوير، وأشدها ضرراً، وأعظم من زور أبو حيان عنهم، أبو بكر الصديق، فقد زور على لسانه رسالة
زعم أنه بعث بها إلى الإمام علي بن أبي طالب، فصدقه الأقلَّون، وكذبه الأكثرون، وكان ابن أبي الحديد ممن كذبه، فقد أثبت الرسالة المزورة في كتابه في شرح نهج البلاغة، ثم قال: الذي يغلب على ظني، أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام، كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبي حيان التوحيدي، لأنه بكلامه ومذهبه في الخطابة والبلاغة أشبه، وقد حفظنا كلام عمر و رساناه، وكلام أبي بكر وخطبه، فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب، ولا يسلكان هذا السبيل في كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد، ليس يخفى، وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين، ومن تأمل كلام أبي حيان، عرف أن هذا الكلام من ذلك المعدن خرج، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروروذي، وهذه عادته في كتاب البصائر، يسند إلى القاضي ابي حامد كل ما يريد أن يقوله هو، من تلقاء نفسه وصدق ابن أبي الحديد في قوله بتزوير الرسالة، وأيده في ذلك اعتراف التوحيدي بأنه زورها، وهذا الاعتراف نقله الحافظ الذهبي عمن اعترف له أبو حيان بذلك، كما صدق ابن ابي الحديد في اتهامه التوحيدي، بأنّه كان ينسب إلى أبي حامد المروروذي ما كان أن يقوله هو، والذي جرأه على هذا التزوير ، أن أبا حامد توفي في السنة ٣٦٢، فلما باشر التوحيدي بتأليف البصائر والذخائر في السنة ٣٦٥ لم يتحرج من الكذب على رجل قد مات يريد وزور ابو حيان، كذلك ، وصية على لسان العباس، عم النبي صلوات الله عليه، يوصي بها ابن أخيه علياً، وكأنه أحس بانه سوف يكذب عن الجاحظ، فدعمها بكذبة أخرى، وزعم أنه وجدها بخط الصولي، عن الجاحظ، وكان سبيل هذه الوصية ، سبيل الرسالة المزورة عن أبي بكر ، إذ أن اسلوبها يصرح بأنها من انشاء إلى حيان وزور كذلك حديثاً، على لسان ثابت بن قرة الصابي، زعم أنه سمعه من أبي سعيد السيرافي، عن جماعة من الصابئين، في الثناء على الفاروق عمر بن الخطاب، وعلى الحسن البصري، والجاحظ، ولعمري أن الثلاثة يستحقون من الثناء، أكثر مما ورد في الرسالة، ولكن ذلك لا ينفي ان الرسالة مزورة، وأسلوبها يدلّ على انها من صنع أبي حيان. وكانت هذه الرسائل المزورة، مقدمة لكثير مثلها، فإن أبا حيان استمرأ هذا المرعى، فأخذ يزور الرسائل، ويثبتها في مؤلفاته، ومؤلفه في شتم الوزيرين، يعج بعدد من هذه الرسائل، كلها مزورة ، لا تستثن منها واحدة، فقد زوّر رسالة في شتم ابن العميد ، زعم أن والده العميد ، كتبها، وبعث بها إلى قاضي أصبهان، تشتمل على إقذاع في شتم ولده، ولم يكتف بذلك، بل زوّر رسالة على لسان قاضي أصبهان. إلى العميد جواباً على رسالته، والتوحيدي إذ يزور هاتين الرسالتين، اللتين يزعم أنهما بين وزير بخراسان، وقاض بأصبهان، ثم يكتفي بعدها لدعم ادعائه، بأن يقول: أفادنا بذلك حمزة المصنف، وكلنا حما ميز الله، بل أن التوحيدي لا يستحي، بعد اثباته هذه الرسالة البينة الكذب، أن يقول : حدثني أبو العادي الصوفي ببخارى، قال: كنت عند العميد ببخاری، وجرى ذكر ابنه أبي الفضل، فقال: كنت أشك في ولادته قبل هذا، والآن فقد تحقق عندي ما كان يريبني منه، وهل يعقل ان يتحدث وزير صاحب خراسان، وهو في دسته، لحضار مجلسه، فيقول لهم إن امرأته زانية، و أن ولده منها ابن زنا، ومن هو أبو العادي الصوفي، الذي تحدث إليه الوزير بزنا امرأته ؟ أن إيراد هذا الخبر، لا يعتبر شتماً لابن العميد، ولكنه شتم للتوحيدي الذي بلغ به حمقه، وبلغت به رقاعته، أن يورد مثل هذا الرجس، ويريد من الناس تصديقه.
وزور أبو حيان رسالة على لسان الكاتب ابن ثوابة، في ذم الهندسة والمهندسين. اتفق الفضلاء على افتعالها، ورجح الدكتور الدين، أن مزورها هو التوحيدي وزور رسالة على لسان أبي راغب العتبي، زعم أنه بعث بها إلى الصاحب بن عباد، تشتمل على أقبح ألوان الشتيمة. وزور رسالة على لسان أبي طالب، إلى أبي الفضل بن العميد، شتمه فيها، وكأنه أراد أن يدعم كذبه بدليل، فقال: هذا ما أفادنا به جريج، شاعر من اذربيجان، ومن هو جريج، وحتى لو كان جريج شاعراً من اذربيجان فأي دليل على أنه حدث التوحيدي بذلك؟ وزور رسالة على لسان ابن طرخان، إلى أبي الفتح بن العميد، وكأنه أحس بأن من يسمعها أو يقرأها ، يطالبه بما يدعم صحة زعمه، فأدَّعى انه وجد الرسالة: فيما بيع من متاع ابن طرخان.
وهكذا كان التوحيدي، في باقي مؤلفاته، فهو يبتدع الرسائل في الاغراض التي يريدها، ثم ينسبها إلى آخرين ، ثم تعدى ذلك إلى أن ينحل ما يريد قوله، اشخاصاً آخرين، وكتابه في شتم الوزيرين، مشحون بهذه الاقوال المزوّرة، فهو لا يشتم أحداً بلسانه، إلا قليلاً ، وإنما يقول: سألت فلاناً فقال لي كذا، وحدثني فلان بالحديث الفلاني، وهو كاذب في جميع ما روى. من وبلغ من ضراوة أبي حيان على تزوير الرسائل، والكذب على أصحابها، أن زوّر رسالة على لسان أبي العيناء، في شم القاضي احمد بن ابي دؤاد والشماتة به لما شل وعزل وصودر فجمع أبو حيان في تزويره هذه الرسالة، بين الجهل والكذب، إذ أن ابا العيناء، كان من المتصفين بصفة الوفاء، وقد ظل مخلصاً للقاضي ابن ابي دؤاد، ممتدحاً له، من بعد وفاته، والمأثور عنه، أنه قال: تذاكروا السخاء، فاتفقوا على آل المهلب في الدولة المروانية، وعلى البرامكة في الدولة العباسية، ثم اتفقوا على أن أحمد بن أبي دؤاد أسخى منهم جميعاً وأفضل. وقال عنه : ما رأيت رئيساً قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دؤاد