كتب المفكر الأمريكي رالف امرسون عن الثقة بالنفس، في مقال بديع تناول فيه الخوف من التغير، والميل الشخصي لأغلب الناس للثبات على طريقة واحدة.
“الرعب الذي يخيفنا من الثقة بالنفس هو ثباتنا ذلك الاحترام لكلمة أو فعل صدر عنا في الماضي لأن عيون الآخرين لا تمتلك من معلومات عنا سوى أفعالنا السابقة، ونحن نكره أن نخيّبهم.
ولكن لماذا يتوجب عليك أن تحتفظ برأسك فوق كتفيك؟ لماذا تجر وراءك جثة ذاكرتك، خشية أن تناقض شيئاً قلته في هذا المكان العام أو ذاك؟ لنفترض أنك ناقضت نفسك، فماذا في ذلك؟ يبدو أن من قواعد الحكمة أن لا تعتمد على ذاكرتك وحدها، حتى فيما يتعلق بالذاكرة المحض، بل أن تأتي بالماضي للشهادة أمام الحاضر ذي العيون الألف، وأن تعيش أبداً في يوم جديد في مجال الميتافيزيقيا، أنكرت تشخيص الربوبية، ولكن عندما تأتيك حركات الروح الورعة، تستسلم لها بروحك وبقلبك، رغم أنها ينبغي أن تلبس الرب شكلاً ولوناً.. تخل عن نظريتك، كما تخلى يوسف عن ردائه ليد امراة العزيز وهرب.
“الثبات الأحمق هو بعبع العقول الصغيرة”
إن الثبات الأحمق هو بعبع العقول الصغيرة، حيث يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة والكهان إن الروح العظيمة لا شأن لها بالثبات إنه بالنسبة لها مثل الإنشغال بظل المرء على الجدار. عبر عما تفكر به اليوم بكلمات قوية، وعبر غداً عما يحمله الغد من أفكار، وبكلمات قوية أيضاً، حتى وأن عارضت بها كل ما قلته اليوم. أه، هكذا تكون على يقين من أن الناس ستسيء فهمك». فهل أن إساءة فهم المرء أمر شديد السوء؟ لقد أسيء فهم فيثاغورس، وسقراط، ويسوع، ولوثر، وكوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن وكل روح نقية حكيمة تجسدت في جسد، أن تكون عظيماً يعني أن يساء فهمك.
“ما هو الشيء الذي يصنع جلال ابطال الحقل وأبطال المجالس الذي يملأ المخيلة؟ إنه الإحساس بقطار من الأيام العظيمة والانتصارات التي وراءهم”
أفترض أن ما من إنسان يستطيع أن ينتهك طبيعته. فجميع تفجرات إرادته تتكور بحكم قانون وجوده، بنفس الطريقة التي تكون فيها نتوءات الأندير هيمالايا غير مهمة بالنسبة لمنحني العالم. كما أن الطريقة التي تقيسه أو تختبره بها لا تغير منه شيئاً بالشخصية مثل القصائد الإسكندرانية تعطيك المعنى نفسه سواء قرأتها سليمة أو معكوسة. في هذه الحياة الرضية الباعثة على الندم التي وهبني الله إياها، دعني أسجل أفكاري الصادقة يوماً بيوم بدون استشراف أو مراجعة، وليس لدي أي شك في أنها ستبدو متساوية رغم أنني لم أقصد ذلك أو أراه على كتابي أن يحمل رائحة الصنوبر ويضج بطنين الحشرات. وعلى السنونو الذي يقف عند شباكي أن يجدل الخيط أو القشة التي يحمل بمنقاره داخل نسيجي أيضاً. نحن نؤخذ على ما نحن عليه والشخصية تتفوق بما تفصح عنه على إرادتنا. يتصور الناس أنهم يعبرون عن حسناتهم وهناتهم بالأفعال الصريحة فقط، ولا يرون أن الحسنات أو الهنّات تطلق نفساً في كل لحظة.
“إن الفعل الأصيل الصادر عنك يوضح نفسه ويوضح سواه من أفعالك الأصيلة الأخرى. أما تماثلك مع الآخرين فلا يوضح شيئاً، تصرف بفردانية، وسوف يبررك ما قمت به بفردانية”
هناك اتفاق في أي تنوع كان للأفعال يجعل كلاً منها صادقاً وطبيعياً في حينها لأن الأفعال الصادرة عن إرادة واحدة تكون منسجمة بغض النظر عما تظهر عليه من اختلاف هذه الاختلافات تغيب عن النظر عند مسافة قصيرة أو قليل من السمو بالفكرة. فهناك توجه واحد يوحدها جميعاً. إن أفضل السفن تقطع رحلتها في خط متعرج يتكون من مئات الانحرافات المعدلة. لو نظرت إلى الخط من مسافة كافية. لاستقام أمامك في اتجاه منتظم. إن الفعل الأصيل الصادر عنك يوضح نفسه ويوضح سواه من أفعالك الأصيلة الأخرى. أما تماثلك مع الآخرين فلا يوضح شيئاً، تصرف بفردانية، وسوف يبررك ما قمت به بفردانية الآن فالعظمة تخاطب المستقبل لو استطعت اليوم أن أكون حازماً بما يكفي لأن أفعل صواباً وازدري العيون، كان لزاماً علي أن أكون قد فعلت من الصواب من قبل ما يكفي للدفاع عني الآن. وليكن الأمر كيفما يكون. افعل الصواب الآن، إزدر المظاهر دائماً، فإن ذلك يحق لك على الدوام. إن قوة الشخصية تراكمية. فكل أيام الفضيلة السالفة تفعل فعلها من الموقف الراهن. ما هو الشيء الذي يصنع جلال ابطال الحقل وأبطال المجالس الذي يملأ المخيلة؟ إنه الإحساس بقطار من الأيام العظيمة والانتصارات التي وراءهم. إنها تلقي بضوء مجتمع على الممثل المتقدم، فيبدو كما لو أنه محفوف بحاشية مرئية من الملائكة ذلك هو الشيء الذي يصيب الرعد في صوت تشاتام، والوقار في هيأة واشنطن، وأمريكا في عين آدم إن الشرف مهاب لدينا لأنه ليس بالأمر العابر. فهو على الدوام الفضيلة العريقة، إننا نقدسه اليوم لأنه ليس ابن اليوم. ونحن نحبه ونجله لأنه ليس مصيدة لحبنا وإجلالنا، إنما هو أمر مستقل بذاته، نابع عن ذاته، ولذلك ينتمي إلى سلالة معصومة قديمة، حتى وان تبدى في شخص يافع.
أرجو أن تكون في هذه الأيام قد أتينا على نهاية التماثل والثبات لتكن هاتان الكلمتان موضع التشهير والسخرية من الآن فصاعداً.
المرجع: مقالات رالف ايمرسون ترجمة: أمل الشرقي، الدار الأهلية للنشر والتوزيع