عند مقارنة النثر العربي القديم بالحديث، يكتشف القارئ أن هناك أسباباً معينة جعلت الفن القصصي يتأخر في الظهور ويظل محدودا في ظل الحركة النشطة والرواج الكبير للشعر، وقد لفتني ماورد عن ابن الجوزي في ذم الاهتمام بفن القصص والقصاصين، وليس ابن الجوزي وحده قد تفرد بهذا الأمر، فآراء كثير من الفقهاء كانت تضع مسافة منع أو كراهة في فعل القص. وعلى صعيد الأدباء، كتب الجاحظ عن ذم الكُتاب، لكنه كان يحيل هذا الرفض إلى تفضيل النقل الشفهي عن الكتابة والتدوين. وقد حدث تحول مهم في مكانة القاص والقصص في فترة قصيرة يمكن عزوها لتغير طبيعة القصص من القصص الوعظية ومن الدور الوعظي والديني الذي اقتصرت عليه القصص المروية في الزمن الأول بعد الإسلام وبين الدور الترفيهي الذي بات يقوده سارد القصص، الذي انفك شيئا فشيئا عن المصادر الموثوقة وصار عجيب وغريب القصص يأتي، وصار القصاص يتنافسون في الخلق والتأليف والزيادة، وباتت مجالسهم تمتلأ بالعوام، وأجورهم تتفاوت، لكن الرأي الفقهي استمر على إثبات كراهة وباطل فعلهم، وتحذير الناس منهم.

أنقل لكم أسباب كره السلف للقصص كما يرويها ابن الجوزي، ثم آفات القصاص من وجهة نظر الفقيه الحنبلي والمحدث والمؤرخ الذي عاش بين (510هـ/1116م – 12 رمضان 597 هـ/ 1201م)

تعود أسباب كره السلف القصص، كما يؤكد ابن الجوزي، لأحد ستة أسباب:

  1. إن القوم كانوا على الاقتداء والاتباع، فكانوا إذا رأوا مالم يكن على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنكروه، حتى أن أبا بكر وعمر لما أرادا جمع القرآن، قال زيد بن ثابت: أتفعلا شيئاً لم يفعله رسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم.
  2.  إن القصص لأخبار المتقدمين تندر صحته، خصوصاً ما ينقل عن بني اسرائيل، وفي شرعنا غُنيه. وقد جاء عمر بن الخطاب بكلمات من التوراة إلى رسول الله، فقال له: أمطها عنك يا عمر خصوصاً إذ قد علم ما في الإسرائيليات من المحال، كما يذكرون أن داود عليه السلام بعث أوريا حتى قتل وتزوج امرأته، وأن يوسف حل سراويله عند زليخا . ومثل هذا محال تتنزه الأنبياء عنه، فإذا سمعه الجاهل هانت عنده المعاصي وقال: ليست معصيتي بعجب
  3. إن التشاغل بذلك، يشغل عن المهم من قراءة القرآن، ورواية الحديث والتفقه في الدين
  4.  إن في القرآن من القصص، وفي السنة من العظة، ما يكفي عن غيره، مما لا يتيقن صحته
  5. إن أقواماً ممن كان يدخل في الدين ماليس منه.. قصّوا (رووا القصص)، فأدخلوا في قصصهم ما يفسد قلوب العوام
  6.  إن عموم القصاص لا يتحرون الصواب، ولا يحترزون من الخطأ. لقلة علمهم وتقواهم، فلهذا كره القصص من كره

أما آفات القصاص. التي يوردها ابن الجوزى، فهي:

  • إنهم يضعون أحاديث الترغيب والترهيب، وتورد المصادر أخبارا كثيرة عن ذلك.
  • إنهم تلمحوا ما يزعج النفوس، ويطرب القلوب، فنوعوا فيه الكلام، فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية في العشق، ويفصل الغزالي القول في هذه الآفة، فيقول: “أكثر ما اعتاده الوعاظ القصاص من الأشعار : ما يتعلق بالتواصف في العشق، وجمال المعشوق، وروح الوصال وألم الفراق، والمجلس لا يحوي إلا أجلاف العوام وبواطنهم مشحونة، وقلوبهم غير منفكة إلى الصور المليحة، فلا تحرك الأشعار في قلوبهم، إلا ماهو مستكن فيها ، فتشعل فيها نيران الشهوات فيزعقون ويتواجدون” ، وتورد المصادر مشاهد كثيرة، لأفعال التواجد والاستغاثة التي تحدث في مجالس القصاص
  • منهم من يُظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه. وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل، فتسمح النفس بفضل بكاءٍ وخشوع فمن كان منهم كاذبا ، فقد خسر الآخرة، ومن كان صادقاً، لم يسلم صدقه من رياء يخالطه ، وغالباً ما يتحوّل مجلس القاص، في هذه الحال. إلى مجلس بكاء ونواح. وقد كان بمرو قاص يبكي بمواعظه، فإذا طال مجلسه بالبكاء، أخرج من كمه طنبوراً صغيراً فيحركه، ويقول: مع هذا الغم الطويل يحتاج إلى فرح ساعة.
  • منهم من يتحرك الحركات السريعة التي يوقع بها على قراءة الألحان، والألحان التي أخرجوها اليوم مشابهة للغناء، فهي إلى التحريم أقرب منها إلى الكراهية، والقارئ يطرب والقاص ينشد الغزل. مع تصفيق بيديه، وإيقاع برجليه، فتشبه السكر. ويوجب ذلك تحريك الطباع، وتهييج النفوس، وصياح الرجال والنساء، وتمزيق الثياب لما في النفوس من دفائن الهوى، ثم يخرجون، فيقولون كان المجلس طيباً. ويشيرون بالطيبة إلى مالا يجوز. وعلى الرغم من الاختلاف، فيما روي عن الرسول، حول الغناء كما يقول ابن القيسراني إلا أنه سمح بغناء التذكير، لاغناء إثارة الهوى في النفس، بيد أن الفقهاء المتأخرين كانوا يتشددون في ذلك.
  • منهم من يتكلم في دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه، فلبس عليه إبليس
  • منهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع، ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح، ولو على فاسد.
  • منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها، وأكثر كلامهم اليوم في موسى والجبل وزليخا ويوسف. ولا يكادون يذكرون الفرائض، ولا ينهون عن ذنب وهؤلاء قصاصو الإسرائيليات
  • منهم من يحث على الزهد، وقيام الليل، ولا يبين للعامة المقصود. فربما تاب الرجل منهم، وانقطع إلى زاوية، أو خرج إلى جبل، فبقيت عائلته لاشيء لهم، وكثير من هؤلاء، يهيمون على وجوههم دون جدوى، مما يسبب هلاكهم
  • منهم من يتكلم في الرجاء والطمع، من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر، فيزيد الناس جرأة على المعاصي، ثم يقوي ماذكر بميله إلى الدنيا من المراكب الفارهة والملابس الفاخرة، فيفسد القلوب بقوله وفعله – ۱۲۵، وكان القاص أحمد الغزالي، لا يقص إلا بعد أن يجمع له ألف دينار
  • منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان، فيحب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه، أو يعينه على الخلق كره ذلك، ولو صح قصده، لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق، وحول هذا الأمر. يقول ابن عساكر قلما تمر بدرس واعظ ( قاص) إلا وتسمع فيه الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الأئمة والصالحين، ابتغاء الصيت والشهرة فقط . وقد حذر الرسول من القاص المرائي والمختال الذي يطلب المجد والرئاسة لنفسه، أما المنازعة والتحاسد والتنافس بين القصاص، فقد عبر عنه المثل المأثور” القاص لا يحب القاص”
  • منهم من يخلط في مجلسه الرجال والنساء. وترى النساء،  يُكثرن الصياح وجداً على زعمهن، فلا ينكر ذلك عليهن : جمعا للقلوب عليه .. ويزخر كثير من المصادر، بوصف مجالس القصاص التي يختلط فيها الرجال والنساء.
  • منهم من جعلوا القصص معاشاً يستمنحون به الأمراء والظلمة، والأخذ من أصحاب المكوس والتكسب به في البلدان ١٢٥ وهنا، يشخص ابن الجوزي ظاهرة التكسب بالقصص على غرار التكسب بالشعر.
  •  منهم من يحضر المقابر، فيذكر البلى، وفراق الأحبة، فيبكي النسوة ولا يُحدّث على الصبر

يحلل مؤلف كتاب النثر العربي القديم د. عبدالله إبراهيم، خطاب ابن الجوزي فيقول: “تكشف أفات القصاص أنها في السعة بحيث تشمل الأركان الأساسية لفعالية القص وهي: القاص وما يقص ولمن يقص، وهي الأركان التي انحدرت عنها، مكونات البنية السردية: الراوي والمروي المروي له. كما تكشف تلك الآفات، أن ذم القصاص، لا يشمل القصص ذاته فقط، بل الأفعال التي ترافقه، فثمة من جهة أولى أفعال تصدر عن القاص، مثل: الارتعاد والتباكي، ودق المنبر، ورمي الأثواب، والحركات المثيرة، وارتداء الملابس الفاخرة زيادة في الهيبة، ومصافحة النساء مما لا يليق بقاص همه الوعظ، وتقابلها أفعال تصدر عن المتلقين مثل: التواجد والتخبيط، وتخريق الثياب، واللطم على الوجه، والاستغاثة والصياح.  وثمة من جهة ثانية، أقوال تصدر عن القاص لا أساس لها من الصحة. مثل وضع الحديث، وتقويل المحدثين، وخلط الأسانيد، وتحريف أقوال القدماء، ورواية ما يتصف بالكذب، والخوض جهلاً في أدلة الأحكام من قرآن وسنة، وإلقاء أشعار الغزل والعشق والمحبة، وتقابلها، استغاثات الوجد، وصياح النساء، الأمر الذي يفضى بالنساء إلى رمي الملابس ويرافق ذلك أحياناً غناء وطرب يهيج الطباع، ويطرب النفوس، وما مقصد القاص من ذلك، إلا أخذ العطاء، وطلب المال، والفحش في كنز الثروة، شأن بعض القصاص في مصر وشيراز وغيرهما.