هذا كتاب أو هي رسالة كتبها أبو عمر الجاحظ، في ذم أخلاق الكتاب، وهي رسالة مثيرة للجدل، حيث يهاجم فيها أهل صنعته ويتهمهم فيها بالخيانة والكذب والانتحال وأكثر من ذلك. هل كان يدعو الجاحظ فيها إلى إحلال المشافهة محل الكتابة؟ كما يجادل بذلك بعض القراء اليوم؟
:إليك نص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله وأبقاك وأمتع بك.
قد قرأت كتابك ومدحتك أخلاق الكتّاب وأفعالهم، ووصْفك فضائلهم وأيّامهم، وفهمته.ومتى وقع الوصف من القائل تقصِّياً، والنَّعت من الواصف تألُّفاً، قلَّ شهداؤه وكثر خصماؤه، وخفَّت المؤونة على مجاوبيه في دعواه، وسُهلت مناسبة الأدْنياء له في معناه. لأنَّ أغلظ المحن ما عُرض على المشهود فأزاله، وتصفَّحه المعقول فأحاله.
وأضعف العلل ما التُمس بعد المعلول، ونصبت له علماً على الموجود بعد الوجود. وإذا تقدَّم المعلول علَّته والمخبر عنه خبره، استُغنى عن الحاكم، وظهر عُوار الشَّاهد.
فقد رأيتك أطنبت بإحماد هذا الصِّنف من الناس، وحكمت بفضيلة هذه الطبقة من الخَلْق، فعلمت أنّ فرط الإعجاب من القائل متى وافق صناعة المادح رسخ في التركيب هواه، ورسبتْ في القلوب أوتاده، واشتدَّ على المناظر إفهامه، وعلى المخاصم بالحقّ توقيفه، وكان حكمه في صعوبة فسْخه وتعذُّر دفعه حكم الإجماع إذا لاقى محكم التنزيل.
ولست أدعُ مع ذلك توقيفك على موضع زللك في الاحتجاج، وتنبيهك على النكتة من غلطك في الاعتلال، بما لا يمكن السامع إنكاره ولا ينساغ له إبطاله. وأبيِّن مع ذلك رداءة مذاهب الكتّاب وأفعالهم، ولؤم طبائعهم وأخلاقهم بما تعلم أنت والناظر في كتابي هذا: أنِّي لم أقل إلاّ بعد الحجّة، ولم أحتجَّ إلاّ مع ظهور العلَّة، ثم أستشهد مع ذلك الأضداد تبياناً، وأجمع عليه الأعداء إنصافاً، إذ كان في ذلك من التبيان ما يبهرهم، ومن القول ما يسكتهم.
ثم أقول: ما ظنُّك بقوم منهم أوّل مرتدٍّ كان في الإسلام، كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخالف في كتابه إملاءه، فأنزل الله فيه آيات من القرآن نهى فيه عن اتخاذه كاتباً، فهرب حتّى مات بجزيرة العرب كافراً، وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرْح.
ثم استكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده معاوية بن أبي سفيان، فكان أوّل من غدر في الإسلام بإمامه، وحاول نقض عُرى الإيمان بأثامه.
وكتب عثمان بن عفّان لأبي بكر رضوان الله عليهما – مع طهارة أخلاقه وفضائل أيّامه – فلم يمتْ حتى أدّاه عرق الكتابة إلى ذمِّ من ذمَّه من أوليائه.
ثم كتب لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه زياد بن أبيه، فانعكس شرَّ ناشئٍ في الإسلام، نُقضت بدعوته السُّنّة، وظهرت في أيّامه ولايته بالعراق الجبْرية.
ثم كتب لعثمان بن عفان رضي الله عنه مروان بن الحكم، فخافه في خاتمه، وأشعل الرَّعيّة حرباً عليه في مُلكه.
ثم أفضى الأمر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فتبيّن من البصيرة في الكتّاب ما لم ير التنويه بذكر كاتبٍ حتّى مات.
ولو كانت الكتابة شريفةً والخطُّ فضيلة كان أحقَّ الخلْق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أولى الناس ببلوغ الغاية فيها ساداتهم وذوو القدر والشرف فيهم. ولكنَّ الله منع نبيَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل الخطَّ فيه دنيَّة، وصدَّ العِلْم به عن النبوَّة. ثم صيَّر الملك في ملكه، والشَّريف في قومه يتبجَّج برداءة الخط، وينبل بشنج الكتاب. وإنَّ بعضهم كان يقصد لتقبيح خطَّه وإنْ ككان حلواً، ويرتفع عن الكتاب بيده – وإن كان ماهراً، وكان ذلك عليه سهلاً – فيكلِّفه تابعه، ويحتشم من تقليده الخطير من جلسائه.
وكتب أحمد بن يوسف يوماً بين يدي المأمون خطّاً أعجبه فقال: وددت والله أنِّي كتبت مثله وأنِّي مُغرَّمٌ ألف ألف. فقال له أحمد بن يوسف: لا تأسَ عليه يا أمير المؤمنين، فإنَّه لو كان حظّاً ما حُرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك إنَّ سنخ الكتابة بُني على أنّه لا يتقلَّدها إلاّ تابع، ولا يتولاها إلاّ من هو في معنى الخادم. ولم نر عظيماً قطُّ تولَّى كفاية نفسه، أو شارك كاتبه في عمله. وكلُّ كاتب فمحكومٌ عليه بالوفاء، ومطلوبٌ منه الصَّبر على اللأواء. وتلك شروطٌ متنوّعة عليه، ومحنةٌ مستكملة لديه.
وليس للكاتب اشتراط شيء من ذلك، بل يناله الاستبطاء عند أول الزَّلَّة وإن أكدي، ويُدركه العذْل بأوَّل هفوةٍ وإن لم يرض. يجب للعبد استزادة السِّيد بالشكوى، والاستبدال به إذا اشتهى. وليس للكاتب تقاضي فائته إذا أبطأ، ولا التحوُّل عن صاحبه إذا التوى. فأحكامه أحكام الأرقّاء، ومحلُّه من الخدمة محل الأغبياء.
ثم هو مع ذلك في الذِّروة القصوى من الصَّلف، والسَّنام الأعلى من البذخ، وفي البحر الطامي من التِّيه والسَّرف. يتوهَّم الواحد منهم إذا عرَّض جبَّته وطوّل ذيله، وعقص على خدِّه صُدغه، وتحذف الشابورتين على وجهه، أنَّه المتبوع ليس التابع، والمليك فوق المالك.
ثم الناشئ فيهم إذا وطئ مقعد الرياسة، وتورَّك مشورة الخلافة، وحُجزت السَّلَّةُ دونه، وصارت الدواة أمامه، وحفظ من الكلام فتيقه، ومن العلم مُلحه، وروى لبُزرْجمهْر أمثاله، ولأردشير عَهْده، ولعبد الحميد رسائله، ولابن المقفَّع أدبه، وصيَّر كتاب مَزْدَك معدن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنْز حكمته ظنَّ أنَّه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عبّاسٍ في العلم بالتأويل، ومُعاذ بن جبلٍ في العلم بالحلال والحرام، وعليُّ بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلاَّف في الجُزْء والطَّفرة، وإبراهيم بن سيار النظَّام في المكامنات والمجانسات، وحسينٌ النَّجَّار في العبارات والقول بالإثبات، والأصمعيُّ وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب. فيكون أوّل بدْوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه. ثم يُظهر ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار. فإن استرجح أحدٌ عنده أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فتل عند ذكرهم شدقه، ولوى عند محاسنه كشحه. وإن ذُكر عنده شُريّح جرَّحه، وإن نُعت له الحسن استثقله، وإن وُصف له الشعبيُّ استحمقه، وإن قيل له ابن جُبير استجهله، وإن قدَّم عنده النَّخعيُّ استصغره. ثم يقطع ذلك من مجلسه سياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان.
فإنْ حذر العيونْ وتفقَّده المسلمون، رجع بذكر السُّنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبَّه بالشاهد الغائب. لا يرتضى من الكتب إلاَّ المنطق، ولا يحمد إلاَّ الواقف، ولا يستجيد منها إلاّ السَّائر.
لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة
هذا هو المشهور من أفعالهم، والموصوف من أخلاقهم. ومن الدليل على ذلك، أنّه لم يُر كاتبٌ قطُّ جعل القرآن سميره، ولا علمه تفسيره، ولا التفقُّه في الدِّين شعاره، ولا الحفظ للسُّنن والآثار عماده، فإن وُجد الواحد منهم ذاكراً شيئاً من ذلك لم يكن لدوران فكَّيه به طلاقة، ولا لمجيئه منه حلاوة. وإن آثر الفرد منهم السَّعْي في طلب الحديث، والتشاغل بذكر كتب المتفقِّهين، استثقله أقرانه، واستوخمه أُلاَّفه، وقضوا عليه بالإدبار في معيشته، والحرفة في صناعته، حين حاول ما ليس من طبعه، ورام ما ليس من شكله.
قال الزُّهريّ لرجل: أيُعجبك الحديث؟ قال: نعم. قال: أما إنّه لا يعجب إلاَّ الفحول من الرِّجال، ولا يبغضه إلاَّ إناثهم!. ولئن وافق هذا القول من الزُّهري فيهم مذهباً، إنَّ ذلك لَبَيِّنٌ في شمائلهم، مفهوم في إشاراتهم.
ومن الدليل على نذالة طبعهم، والعلم بفسالة رأيهم، تقديمهم بالفضل لمن لا يفهمونه، وقضاؤهم بالعلم لمن لا يعرفونه، حتَّى إنهم يضربون بالكاتب فيما بينهم المثل، ويحكمون له بالبصيرة في الأدب، على غير مُعاشرةٍ جرتْ بينهم، ولا محبّة ظهرت له منهم. ليس إلاّ أنَّ هممهم صغرت عنهم، وامتلأت قلوبهم منهم، فصار المحفوظ من أقوالهم، والذي يدينون به من مذاهبهم: كيف لا يأمن فلانٌ الخطأ مع جلالته، وكيف ينساغ لأحدٍ تجهيله مع نبله. فإنْ وُقفوا على تمييزه هابوه، وإن دُعوا إلى تفهُّمه أكبروه، وقالوا: لم يُنصب هذا بموضعه إلاَّ لخاصَّةٍ فيه وإن جهلناها، وفضيلةٍ موسومة وإن قصر علمنا عنهم. ولعلَّه عُمر بن فرجٍ في السَّفه والمباهتة، وإبراهيم بن العبَّاس في الشَّره والرَّقاعة، ونجاح بن سلمة في الطَّيش والسخافة، وأحمد بن الخصيب في اللُّؤم والجهالة، وآل وهب في النَّهم والنَّذالة، ويحيى بن خاقان في الذُّلِّ والفاقة، وموسى بن عبد الملك في الوخم والبلادة، وابن المدبِّر في الخبِّ والمكابرة، والفضْل بن مروان في الفدامة مقصورة.
إنَّ للكتّاب طبائع لئيمة، ولولا ذلك لم يكن سائر أهل التجارات والمكاسب بنظرائهم بررةً، ومن ورائهم لهم حفظة، وأنتم لأشكالكم مُذلُّون، ولأهل صنائعكم قالون. قبح الله الذي يقول قضينا في الأمور بالأغلب.
وعرفنا علل الناس في مكاسبهم وتعامُلهم، فمن كانت علَّتُه أكرم كان كرم فعاله أعمَّ. ولست أعلم علَّةً في مكتسبٍ أنبل عند الخاصَّة من مكسبكم.
وجلس الجاحظ يوماً في بعض الدواوين، فتأمَّل الكتَّاب فقال: خلقٌ حلوة، وشمائل معشوقة، وتظرُّف أهل الفهم، ووقار أهل العلم، فإن ألقيت عليهم الإخلاص وجدتهم كالزَّبد يذْهب جُفاءً، وكنْبتة الربيع يُحرقها الهيْف من الرياح؛ لا يستندون من العلم إلى وثيقةٍ، ولا يدينون بحقيقةٍ؛ أخفر الخلق لأماناتهم، وأشراهم بالثمن الخسيس لعهودهم؛ الويل لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون.
وخُبِّرْت أنَّ أبا العتاهية أتى يحيى بن خاقان يوماً ليسلِّم عليه، فلم يأذنْ له حاجبُه فانصرف، وأتاه يوماً آخر فصادفه حين نزل فسلَّم عليه، ودخل يحيى إلى منزله ولم يأذنْ له، فكتب إليه أبو العتاهية من ساعته رُقْعةً فيها:
أراك تُراعُ حين ترى خيالي … فما هذا يروعُك من خيالي
لعلك خائف منِّي سؤالاً … ألا فلك الأمان من السُّؤال
كفيتُك إنَّ حالك لم تمل بي … لأطلب مثلها بدلاً بحالي
وإنَّ العُسْر مثل اليسر عندي … بأيِّهما مُنيت فما أُبالي
فلما قرأ يحيى بن خاقان رُقْعته ووثق بأمانه من السُّؤال أذن له، فخرج الحاجب فوجده قد انصرف، ولم يَعُدْ إليه، ولا التقيا بعد ذلك.
ثم وصف أصحاب الصناعات، وذكر تعاطف أهلها على نظرائهم، وتعصُّب رجالها على غيرهم فقال:
لا أعلم أهل صناعة إلا وهم يجْرون في ذلك إلى غاية محمودة، ويأتون منه آيةً مذكورة، إلا الكُتَّاب، فإنَّ أحدهم يتحاذق عند نظرائه بالاستقصاء على مثله، ويسترجح رأيه إذا بلغ في نكاية رجلٍ من أهل صناعته.
ثم ضرب لهم في ذلك مثلاً، ثم قال: هم كالهرمة من الكلاب في مرابضها، يمرُّ بها أصناف الناس فلا تحرَّكُ، وإن مرَّ كلبٌ مثلها نهضت إليه بأجمعها حتّى تقتله.
وحدّثني عُمر بن سيف، أنه حضر مجلس أبي عبّاد ثابت بن يحيى يوماً في منزله، وعنده جماعة من الكتاب، فذكر ما هم عليه من ملائم الأخلاق ومدانس الأفعال، قال: ووصف تقاطعهم عند الاحتياج، وعدم تعاطفهم عند الاختلال، وزُهدهم في المواصلة فقال: معاشر الكتاب، ما أعلم أهل صناعة أملأ لقلوب العامَّة منكم، ولا النعم على قومٍ أظهر منها عليكم. ثم إنَّكم في غاية التقاطع عند الاحتياج، وفي ذروة الزُّهد في التعاطف عند الاختلال. وإنَّه ليبلغني أنَّ رجلاً من القصابين يكون في سُوقه، فيتلف ما في يديه، فيخلَّى له القصَّابون سُوقهم يوماً، ويجعلون له أرباحهم، فيكون بربحها منفرداً، وبالبيع مُفردا، فيسدُّون بذلك خلَّته، ويجبرون منه كسره. وإنكم لتناكرون عند الاجتماع والتعارف، تناكر الضباب والسَّلاحف، ثم مع استحواذكم على صناعتكم، وقلة ملابسة أهل الصناعات لها معكم، لم أر صناعة من الصناعات إلاّ وقد يجمع أهلها غيرها إليها فيعانونها جميعاً، وينزلون لضربٍ من التجارات معاً، إلاّ صناعتكم هذه؛ فإنَّ المتعاطى لها منكم، والمتسمِّي بها من نظرائكم، لا يليق به ملابسةُ سواها، ولا ينساغ له التَّشاغل بغيرها. ثم كأنكم أولاد علاَّتٍ، وضرائر أُمهات، في عداوة بعضكم بعضا، وحنق بعضكم على بعض. أُفٍّ لكم ولأخلاقكم!.