حديث من كتاب “فن العيش الحكيم” للفيلسوف أرثر شوبنهاور عن الشرف الفروسي الذي كان سائدا في أوروبا المسيحية

ثمة تصور عام عن الشرف سائد ونافذ في أصقاع كثيرة لا يعرف عنه الإغريق والرومان شيئا، بل والصينيون أيضا والهندوس والمسلمون وجد مرتعه الخصب في أوروبا المسيحية خصوصا في أوساط الطبقات الراقية، يتعلق الأمر بـ الشرف الفروسي، أو ما يمكن تكثيفه في مناط الشرف والقاعدة التي تحكمه مغايرة تماما لكل أنواع الشرف التي تناولناها حتى الآن، إن لم تكن نقيضها المباشر من نواح عدة.

فالتصور العام الأول ينتج عنه الإنسان المشرف، بينما الثاني يصنع إنسان الشرف. سأحاول أن أعرض لمبادئهما على ضوء القانون العام المؤطر لـ الشرف الفروسي. لا يتحدد الشرف برأي الغير في استحقاقه من عدمه، بـل بالتعبيرات الخارجية المادية عن هذا الرأي سواء كان صادقا أو كاذبا، يستند على أسس أو تُعوزه.  فمن الوارد أن يكون للناس كافة رأي سلبي جدا في شخص بسبب سيرته ومن الوارد أن يمقتوه أشد ومن الوارد أن يمقتوه أشد المقت جراء ذلك إلا أن ذلك لا ينال إطلاقا من شرفه ماداموا غير قادرين على التعبير عن ذلك جهارا نهارا أمام الملأ وبأعلى صوت. فيستمر في فرض تقدريهم له تقديرا عاليا على علاته. لكن لو قام شخص واحد وعبّر عن مقته العلني له حتى ولو كان من أرذل الناس، فقد نجح في تلطيخ شرفه وأضر به ضررا بالغا، لا بل قد يفقد شرفه بالمرة، إن لم يبادر إلى استعادته توا.

ويؤكد هذا المعطى أن الأمر لا يتعلق هنا بالرأي بحد ذاته، بـــل بجرأة التعبير العلني عنه. لذلك، ما أن يسحب الفاعل ما ألحق بــه الضرر بشرف غيره من شتم أو قذف ونحوه، ويعتذر منه حتى تطوى الصفحة، وكأن شيئا لم يقع. لا يهم بعد ذلك إن كان الرأي، مصدر الضرر قد تغير وما الذي جعله يتغير، بل المطلوب تعبيراته العلنية، والعدول عنه بصفته شرطا مطلقا أحد فقط، هو محو لعودة الأمور إلى نصابها والمياه إلى مجاريها. المشكلة ليست في جدارة الشخص المتضرر بالإحترام من عدمه بل باستكثاره عليه والإخلال به على رؤوس الأشهاد.

يتوقف هذا الشرف على ما يقوله فلان عن علان وما يفعله به، ومشروط به فهو شرف يتحكم به الآخرون ويتقلب بين أيديهم، وتلوكه ألسنتهم؛ يكفي أن يخوض فيه أول قادم بالسوء، أو ينال منه بالفعل، حتى يكون بمهب الريح،

لا يرتبط شرف الشخص بأفعاله، بل بما يفعل به الآخرون، أي بأفعالهم تجاهه، وبما يحدث له ويَعرِضُ له من نوازل. تناولنا، حتى الآن بالدرس والتحليل التصور العام السائد عن الشرف، فتبين من خلال مبادئه ومسوغاته بأنه يتوقف على أقوال وأفعال الشخص. غير أن الأمر خلاف ذلك في التصور الفروسي للشرف. فهذا يتوقف على ما يقوله فلان عن علان وما يفعله به، ومشروط به فهو شرف يتحكم به الآخرون ويتقلب بين أيديهم، وتلوكه ألسنتهم؛ يكفي أن يخوض فيه أول قادم بالسوء، أو ينال منه بالفعل، حتى يكون بمهب الريح، ما لم يبادر المتضرر توا إلى إبراءه واستعادته ولو بالقوة تحدثنا آنفا عن الطرق الكفيلة بإبراء الشرف المطعون في ذمته واستعادته، وتبين أنها قد تُعرض حياة سالكها لخطر محقق، أو تعيق حريته، أو قد تلحق أضرارا جسيمة بماله وثروته، أو تشوش على راحة باله وتكدر صفوه. وحتى لو كانت سيرة المطعون في شرفه من أنبل وأشرف السير، ومن ذوي الروح الأصفى والأنقى، بل وفي عداد النوابغ، إلا أن شرفه ليس أبدا في مأمن من تربص المتربصين به. وقد يكون أحد هؤلاء سفيها أو نذلا أو من أغبى الناس أو كسولا أو قمارا، وعموما من لا يستحق حتى أن نلقي عليه نظرة، فعن لـــه، في لحظة ما، أن يتجاسر على هذا الشرف النبيل، ففعل. فقد جرت العادة بأن تكون هذه الطينة من بني البشر هي التي يستهويها شتم غيرها، والنيل منهم والتعدي بلا موجب حق، عن حرمتهم. وكم كان سينيكا محقا حين قال: كلما كان المرء منبوذا وممقوتا، كلما تجاسر بلسانه على غيره وأطلق له العنان بالقول المعيب. وهدفه المفضل هو الأرفع قدرا بين الناس، وأكثرهم نبوغا والمعية. فالأضداد بطبيعتها تتكاره عفويا والخصال الحميدة والشيم الرفيعة توقد نار سعار أهوج في نفوس البائسين، يقول غوته:

لمَ تشكُ من أعداءك؟ فلن يكونوا أبدا أصدقاءك

شخصك وحده، فضح خفي وأبدي

لحقيقتهم.

 واضح إذن أن مبدأ الشرف له فضل كبير على هذه الفصيلة الوضيعة من بني البشر إذ تجعلها على قدم المساواة مع المتفوقين عليها بما لا يقاس فلو أطلق أحدهم العنان للسانه وشتم غيره بأي صفة مرذولة وخسيسة، فلن يكون للمشتوم إلا خيار واحد هو الردّ، لمحو العار الذي لحقه ولو بإراقة الدم إن اقتضى الحال. وإن لم يفعل فسيزكيه إلى حين ولو كان عاريا عن ومفتقرا إن لم تكتب له الحياة إلى الأبد لو باركه مرسوم قانوني نافذ. سيغدو المشتوم إذن في أعين وموازين رجالات الشرف، هو ما تلفظ بــه الشاتم بحقهم ولو كان من أرذل الأراذل وأحطّهم قيمة. والسبب هو الصحة للحجة، هذا أن المتضرر فضَّل أن يبتلع الإهانة ويلتهم الشتيمة على حد تعبير العبارة المتداولة. ومنذئذ سيمقته رجالات” الشرف” أشد المقت وسيتهربون منه كما لو كان مجذوما وسيتفادون حضور اللقاءات والإجتماعات أو أي مكان يحضر فيه ولا يساورني أدنى شك في أن هذا الشعور المحمود” يرقى وجوده إلى العصر الوسيط. فقد ذكر راتشر كيف أن المتَّهم لا المتّهِم هو المطالب بتبرئة ذمته مما أنهم به في المحاكمات الجرمية إلى حدود القرن الخامس عشر، من خلال أداءه قسما بهذا الشأن يزكيه شهود” مساعدون” يُقسمون أيضا على صدق قسم المتهم. أما إذا لم يتداركه هؤلاء، أو طَعَن المتَّهم في ذمتهم، فسيوكل أمر الحكم الأخير للرب من خلال المبارزة بين الطرفين. فإلى هنا يكون “المشتوم” معنيا بالفعل بالتهمة النقيصة وثبتت عليه الشتيمة، ويغدو مطالبا بإبراء ذمته منها بطريقة أخرى غير طريق التقاضي. هو ذا الأصل التاريخي لموضوعة الشتيمة وحيثياتها، والإجراءات التي تشملها والتي لازالت سارية المفعول، إن لم يُبطل القسم والقسم الداعم مفعولها المضر. وهذا ما يفسر السخط الشديد الذي يتملك رجالات الشرف” لما يتجاسر أحدهم عليهم فيتهمهم زورا وبهتانا بما ليس فيهم من نقائص ورذائل. كما يفسر عمليات الثأر الدامية التي يلجؤون إليها في أحايين كثيرة، لرد الاعتبار لذواتهم. وهو أمر بمنتهى الغرابة إذا استحضرنا كيف بــات الكذب والبهتان عند الكثيرين عملة يومية. فقد تبوأ الكذب سُدّة “البدعة الخدعة” الكثيرة الشيوع والشديدة التجذر في الحياة اليومية للبريطانيين على سبيل المثال. وجرت العادة بأن يُشهر المرء سيفه في وجه كل من إتهمه بالكذب هو الذي تعهد بالإمتناع عن الكذب طيلة حياته. ثمة إجراء عام يُحتكم إليه في جلسات المحاكم التي تبث في مثل هذه النوازل، وهو أن يرد المُتَّهَم على المتهم بالقول: كذبت. بعدها، يحتكم مباشرة إلى حكم الرب” ممثلا في الإستعانة بالسلاح لأجل تبرئة النفس من جريرة الكذب وهو من الأمور الثابتة في قانون الشرف الفروسي.

 هذا في ما يتعلق بالشتيمة إلا أن هناك ما هو أسوأ منها شيء مرعب، أستسمح رجالات” الشرف” بألا يجعلوه نافذا إلا في حالة الشرف الفروسي. على يقين بأن مجرد تصوره ستقشعر له أبدانهم. هذا الشيء هو منتهى الأذى وأعظم الشرور، إنه مفزع أكثر من الموت وأدهى من التنكيل وأقصد تلقي شخص لضربة، صفعة كانت أو لكمة أو ما شابه. فتلك إهانة ستسقط شرفه بكل تأكيد. فإن كان ممكنا مداواة الجروح الناتجة عن دفاع عن شرف ملطخ فالعلاج الوحيد في حالة الإهانة يتلقاها المرء بواسطة الضرب، هــو قتل مهينه لأجل إعادة الاعتبار لشخصه.

إن مصدر قلق المرء على شخصه ليست خشيته على مساس ما بصفاته الذاتية، أي ما هو بذاته، ولذاته ولا حتى التساؤل إن كان الشرط الأخلاقي الجانب من كينونته ينالها تغير حالما مـــس بشـــرفه، وغير ذلك من المزاعم المدرسية، بل هو الشرف الشخصي فلو أصابه مكروه أو ضاع ولو للحظة، فهناك فرصة لاستعادته كاملا في حينه شرط القطع مع التردد والإسراع في الرد. ولا ترياق لهذا المصاب الجلل إلا الاحتكام للمبارزة. أما إن كان المعتدي لا ينتمي إلى الطبقات الاجتماعية التي تتقيد بقانون الشرف الفروسي، أو إن ثبت انتهاكه له في الماضي، فليس أمام المعتدى عليه إلا القضاء عليـــه بقوة السلاح فور قيامه بعدوانه أو ساعة بعد ذلك على أبعد تقدير. فذاك هو الإجراء الوحيد الناجع بذلك، سيكون قد استعاد شرفه المفقود سواء كان العدوان عليه لفظيا أو ماديا. وهناك من يتفادى اللجوء إلى هذه الطريقة في الثأر تجنبا لمشكلاتها والمضايقات الناتجة عنها، مُفضّلا بدلها هذا الإجراء: فإن كان المعتدي مشمولا بقانون الشرف الفروسي، يلجأ إلى حل وسط هو هذه بتلك، فإن شتمه المعتدي رد عليه بالشتيمة عينها، أو بادره بالضرب إن لم توقفه الشتيمة عند حده وتعود به عن غيّه. وفي حال الرد بالضرب، تكون إعادة الاعتبار بردود أشد وعلى نحو تصاعدي. فالرد على الصفعة يكون بضربة عصا، والرد على ضربة عصا يكون بالضرب بسوط الصيد، والرد على السوط يكون بالبصق على الوجه، وهو رد أثبت نجاعته. وان لم تؤتي كل هذه الوسائل أكلها في ردع المعتدي، فـــلا خيار بعد ذلك إلا إراقة الدم. وهذا التدرج في الرد من الخفيف إلى العنيف يحكمه منطق الحكمة.

فالشاتم حين يشتم يكون مدفوعا بمستلزمات الشرف، بينما المشتوم يلحقه العار ويكسوه إلى حين رفعه عنه. لكن، ثبت صدق الشتيمة، فليس للمشتوم إلا أن يبلع لسانه ولو كان ذا مزايا ومناقب رفيعة. في هذه الحالة، يُغير الحق والشرف معسكره ليصير بجانب الشاتم، ويكون الفاقد لشرفه مُطالبا باستعادته. ولا استعادة إلا بحد السيف أو طلقات الرصاص لا بكلام عن الحق ونداء العقل من منظور الشرف الفروسي، لا شيء يعلو على الفظاظة والبذاءة، هما القيمة العملية المطلقة. فالأكثر فظاظة وبذاءة هو المحق في كل الأحوال. فمهما ارتكب الشخص من حماقات وأفعال غير لائقة، بل وفضائح يندى لها الجبين فإن الفظاظة والبذاءة تمحوهما وتسحبان عليها مشروعية خاصة. هب أن شخصا أبان في مناقشة عن معرفة عميقة ودقيقة، وتشبث بالحقيقة وقدرة على الحكم السديد ورجاحة عقل، وبكلمة أبان عن تفوق عقلي، فإن محاوره سيموت خجلا أو أو يلوذ بالصمت أو يتوارى في الظل، ثم سرعان ما يتحول إلى شخص فظ وعدواني لعجزه عن طمس تفوق محاوره مقابل إخفاء ضحالته الفكرية، متوهما بذلك أنه يمارسا تفوقا بديلا. فليس للحجج الرصينة إلا أن تحزم أمتعتها عندما تحل الوقاحة في التعبير والسلوك، فالوقاحة تحكم على الفكر بالانزواء ولو أحجم من كان هدفا لها عن الرد عن صاحبها، فسيضاعف من جرعاتها جريا وراء تحقيق السبق والتفوق المعكوس على غريمه الذي يمده بإحساس عارم بالانتشاء والزهو والجدارة بشرف. عندئذ، لن يكون أمام الحقيقة والثقافة وكــل رجاحة عقل العالم وصواب الحكم والذكاء إلا أن يحزموا حقائبهم، والانسحاب من مواجهة الوقاحة العارية. لذلك، ما أن عن رأي مخالف لرأي أحد رجالات الشرف”، أو أبان عن رجاحة عقلية أكبر من خلال مناقشة حتى يمتطي هؤلاء صهوة هذا الفرس المتخصص في هذه المعارك. إن أعوزتهم الحجة في الرد على مجادلهم، إستعاضوا عنها بالفظاظة والفحش الذي يكون دوما، رهن إشارتهم، ويضطلع بزعمهم بالدور نفسه أي إثبات التفوق معكوسا، وضمان خروجهم من المجادلة مزهويين ومنتصرين. وبعد، أليس مبدأ الشرف هو المسؤول الأول . غلبة نبرة عن النبالة في كل الميادين الاجتماعية، حتى بات القاصي والداني يعتقدان بأنهما قطعا من سلالة النبلاء؟ فالقاعدة الأخلاقية العامة الموجهة لهكذا مبدأ، والتي توسعنا فيها إلى هذا الحد، ترتكز بدورها علــى قاعدة أخرى هي أس وروح الشرف كما تقدم شرحه.

إن كل المنازعات حول الشرف والمعروضة على أنظار محكمة العدل العليا لها صلة بقضايا العنف الجسدي، أي بالجانب الحيواني للمتقاضين. فكل بذاءة في السلوك إستفزاز الحيوانية الإنسان في الإنسان، وإقرار بالعجز الأخلاقي للعقل، وبالتالي فهي دعوة إلى المواجهة البدنية. وقد كان فرانكلين محقا إلى حد كبير، عندما عرف الإنسان بالحيوان الصانع للأدوات. وهذا النوع من أنواع الصراع بين بني البشر لا يتحقق إلا من خلال المبارزة التي تستعمل فيها أسلحة صُممت خصيصا لهذا الغرض، وتُسفر عن حكم نهائي غير قابل لنقض ولا استئناف وهذا المعطى العام له إسم خاص هو حق القوة، والذي ينطوي على دلالة تهكمية واضحة ففي الألمانية يدل على معنى العبث واللامعقول Aberwit. لذلك، يبدو لي أن الصواب هـو تسمية الشرف الفروسي بـ شرف القوة.