هذه فقرات مهمة تحدث فيها علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر عن مشاهداته وذكرياته عن اهتمامات ومهن النساء في القرن الماضي بدوياتهن وحضرياتهن وعن النساء الذين في حياة الشيخ من عام1907- 2000
عن المرأة البدوية
المرأة البدوية ـ في الغالب الأعم – ربة بيت، مدبرة لأمورها، صناعة بيديها ، دؤوب في عملها ، مُجدَّةٌ بالعناية بأحوال أسرتها ، تجيد جميع الأعمال التي هي عماد حياة تلك الأسرة في محيط بيئتها، كالغزل والنسيج، ودباغة الجلود، وتنمية نتاج الأنعام، ومعالجة أمراضها ، بالطريقة التي تُهيء ما يسد متطلبات حياة البادية إنها – ا عدا القيام بإعداد ما يلزم بيتها من أثاث وفُرش وأوعية الحفظ الأطعمة وغيرها كالعياب والمزاود ) ، والبسط، ولوازم الرحل وبيت الشعر من حبال وأوتاد وأعمدة، وكل ما تقوم عليه بنية ذالك البيت، وما يُقْتَنى ويُستعمل داخله – تـتتعهد ما تنتج أنعامها بالرعاية والإصلاح، فتستخلص من ألبانها السمن والأقط، ومن أصوافها أو أوبارها أو أشعارها وجلودها ما تستفيد به في مختلف حاجاتها، وما يعرض للبيع في أسواق القرى لمقايضته بما يحتاج إليه أب به أبناء البادية من مأكول أو ملبوس أو مستعمل تجد البدويات حين يحلُّ الحَيُّ في الأمكنة القريبة من القرى ـ وذلك لا يكون غالباً إلا بعد فترة من الزمن قد تبلغ شهوراً ـ تَجدُهُنَّ يُسارعن في الذهاب إلى القرية، حاملات معهن ما جمعن مدة انقطاعهن عن زيارة القرى من نتاج أنعامهن – إبلاً كانت أو غنماً ـ ومن عمل أيديهن ، من أقط أو سمن، ومن أدوات مغزولة أو منسوجة أو مدبوغة، كالقرب والأجرية والدلاء ) ، وما تُزيَّن به الرحال من (ميارك )) و (مزاود) و (سفائف ) مما ينسج من صوف ملون وشيع)) يُتَأَنَّقُ بطريقة نسجه .
إنهن يعرضن ذالك في أسواق كثيراً ما كان أهلها يتطلعون إلى عرضه في الأوقات التي يتحرون فيها قُرب البوادي من أعداد المياه بعد انقضاء فصل الربيع، وتوفر ما جادت به أنعامهن من نتاجها في أيديهم. وكما أن البادية تقوم حياتها على حياة الحاضرة، فكذلك حياة الحضريين من . سكان المدن والقرى : به النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ بَدْرٍ وَحَاضِرَةِ بَعْضَ لِبَعْض – وإِن لَمْ يَشْعُرُوا – حَدَمُ ثم تعود النسوة بعد أن استبدلن أشياء أخرى مما هُنَّ بحاجة إليه بما ذهبن به، من ألبسة أو زاد، أو قهوة وسكر ، وأفاويه * وأبازير مما يصلحه الطعام، وكثيراً ما يكون من بينه بعض لوازم الزينة أو أدواتها ، كالخواتم والقلائد من الخرز ( الجزع ) والطيب والكحل، فالبدويات لم تقسرهن حياة البادية القاسية على الخشونة ، بل يتحلَّلين بأخلاق وطباع رقيقة، ويعنين بالظهور بالمظهر الحسن ، ما وَجَدْنَ إلى ذالك سبيلاً، ومن بينهن من تستطيب لفتاها – زوجاً أو ابناً – من سوق القرية ما تتحفه به . في العشر الأواخر من رمضان سنة ١٣٤٦هـ ـ حل الحي في الجانب الغربي من ، ( نُفُودِ الملحاء) وأقرب ما يليه من القرى بلدة ( أشيقر ) إقليم الوشم، وذلك في إقبال العيد، ولابد للنسوة وغــيــرهن من الذهاب إلى هذه البلدة – كالعادة – لعرض ما تهيأ جمعه، ثم العودة بالميسور من حاجات القوم . سارت القافلة مغلسة، ليتسنى لها أن تعود قبل ظلام الليل وقوامها بضع نسوة، تكاد تتفق غاياتهن، لولا أنَّ من بينهن واحدة لا أرب لها في شيء مما ذهبن للبحث عنه، ومع ذالك فهي أقواهن رغبة في الذهاب إلى القرية، وأَشَدَّهُنَّ تَعلَّقاً بها . وأمام دكان ( أبي سليمان ) الواقع في مُتَّسع من أحد مداخل القرية، غير بعيد عن سوقها الذي لايحوي سوى بضعة حوانيت ، قد سارع أصحابها إلى فتحها عند مشاهدة حضور القافلة، وتجمعوا حول ما تحملُ من بضاعة قوامها ( عِكَاكُ السَّمن)) ومزاودُ الأقط ، وأوعية الجلود المصنوعة من قرب وأجربة وعياب، ومنسوجات من الوبر أو الصوف، من صنع تلك النسوة اللواتي أنخن (قعدانهن )) في البراح ، وأتين ببضاعتهن حتى طرحتها أمام ذالك الدكان .
و ( أبو سليمان) ممن عُرف بين كثير من أبناء البادية بالأمانة ، وطيب القلب، وحسن المعاملة، وفوق ذالك فهو ذُو عطف على المحتاجين منهم، و الثقة والمحبة ما جعلهم يركنون إليه في تصريف كثير من شؤونهم، وهم مطمئنون إلى صدقه وأمانته، وهو مع هذا تكاد طيبة قلبه تبلغ درجة السذاجة، إنه في كثير من تصرفاته غرير كالطفل ، فقد يُكَدِّسُ في داخل حانوته مالا ينبغي ادخاره ، فلا يلبث أن ينال منه ربحاً وفيراً في كثير من الحالات.
وهاهي عجوز منزويةٌ داخل الحانوت، على مقربة من بابه ، ترقب صواحبها وتتطلع إليهن ليسر عن في إفساح المجال لها لتتحدث مع الرجل فيما أتت لأجله، إذ لن يشغل نفسه بها، وليس بين يديها ما هو بحاجة إلى الاشتغال به.
ها قد أوشك القومُ أن يَنفَضُّوا بما اشتروه من تلك البضاعة، وها هُنَّ النسوة قد شُغلن بجمع ما رغبن بالعودة به إلى أهلهن.
التغير المفاجىء في الحياة العامة
ما كان أبي متعلما لكي يدرك قيمة العلم، بل كان أميا ، ولم يحسن القراءة إلا على كبر حين انتشرت حركة التدين بين أبناء البادية في عشر الثلاثين وما بعدها من القرن الماضي، فأقبلوا كلهم على تعلم القرآن وأصول الدين، وقويت الحركة الدينية حتى شملت سكان القرى، فاتجه كبيرهم وصغيرهم إلى التعلم.
وكان أبي لصغر سنه – بالنسبة لأخويه حمد وعلي ولرشود بن حمد الذين كانوا يقومون بأعمال الفلاحة ـ يعيش في أول حياته عيشة انطلاق، فيمارس جوانب من اللهو الذي يمارسه لذاته في ذالك العهد ممن في مثل سنه ، فيحسن نظم الشعر باللهجة العامية، ويتغنى به على الربابة، ويتطلع لمحادثة الفتيات البدويات، وكانت أحوال أبناء البادية الاجتماعية قبل اشتداد موج رجة التدين العارمة فيها كثير من الانطلاق ، فما كانت النساء يعرفن الحجاب – ستر وجوههن – ولا يتحاشين مجالسة الرجال والتحدث معهم، وكُن في أوقات الزواج يقمن بالرقص، ولا يرى الشباب غضاضة في التطلع إليهن أثناءه .
وأذكر أنَّ عشيرة تُدْعَى ( الكعبة ) – بضم الكاف ــ ( القعبة ) من السياحين، من الرُّوقَة من عتيبة كانت قاطنة على آبار بلدة البرود الجنوبية (طفيح) وما حوله، وأنني كثيراً ما أشاهد الرجال في المجلس الذي يجتمعون فيه عند طلوع الشمس لتناول القهوة، كانوا يتعاطون شرب الدخان ، بواسطة عظم، يتداولونه بينهم، ولقد رأيت الفتيات ومنهن من تجاوز سن البلوغ – مجتمعات يرقصن على نغمة أغنية، تلقي إحداهن وهي ترقص معهن، أبياتها متفرقة، ولكن لم يعلق بدهنى لصغر مني سوى ( مطلق زرار ثوبي) . وكنت أذكر أنني مررت برجل كنتُ أعرفه يعمل في زرع له، على مقربة من بلده <البرود» في جنوبها، وكان يتجاذب الغناء مع زوجته بصوت مرتفع منعم، فكان يقول : أبو ثنايا كنها حب رمان . فتجيبه قائلة : أو قحويان طاغي في مسيله
و كنت كثيراً ما أصيخ لإحداهُنَّ وهي تطحن على الرحا ـ وما كالغناء في قطع الوقت أثناء العمل – فكانت تتغنى بصوت مسموع وبنغمة تتناسب مع تحريك الرحا وإدارتها ، والرحا في القرى مشتركة بين النساء، يتناوبن العمل بها . وسرعان ما تغيرت الحال الاجتماعية حين بدأ عهد الملك عبد العزيز آل سعود – رحمه الله ـ في الاستقرار في آخر العقد الثالث من القرن الماضي وما بعده، حين أقبلت البادية على الانتقال من حياتها إلى الرغبة في الاستقرار، وتلقت بعض المباديء التي تبرز تلك الحياة بصورة بعيدة عن الدين، فاتَّجه أبناؤها إلى تعلم أصوله وقواعده بطريقة التلقين، وكثير منهم أقبلوا على تعلم القرآن على تقدمهم في السن، ثم استقر أغلبهم في قُرى دُعيت في أول الأمر ( هُجراً ) واحدتها هجرةً ، أخذا من الهجرة التي هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وكانت ( الأرطاوية) أول (هجرة ) أنشئت سنة ١٣٣٠هـ [ ١٩١١م)، ثم تتابع إنشاء الهجر بعد ذالك حتى بلغت نحو ( ١٥٠ ) هجرة )
نساء الفلاحين
ومرأة الفلاح هي خير معين له في جميع أعماله، وتتولى نساء الفلاحين حلب البقر والغنم، وإعداد اللبن من ترويب الحليب ، ثم مخضه لاستخراج الزبد منه، وحينئذ يكون معداً للشرب، ولاستعماله إداما لبعض الأطعمة، وكثيراً ما اكتفي به غذاء على حد المثل : ( اللبن مقطع الشهوات ) . وهن ربَّاتُ بيوت حقًا، ويقمن بكثير من الأعمال التي لا تقتصر على العناية بأطفالهن، وإعداد الطعام، والقيام بجميع شؤون البيت، ومنها طحن الحبوب، ونسج بعض الفرش من الخوص أو الصوف وإعداد أغطية الأواني مما ينسجن، وخياطة الملابس، بل يقمن بأعمال أخرى خارج المنزل، فيأتين بالماء العذب للشرب من آبار عادة ما تكون خارج القرية، وبالخطب من الْبَرِّ ، يَحْمِلْنَ ذالك على ظهورهن مسافات طويلة، يذهبن صباحًا مبكرات فلا يعدن إلا ظهرا، بعد أن أجهدن أنفسهن . من البر، ما تساقط من وهن يشاركن الرجال في أعمال الفلاحة، كإعداد علف الدواب بجمعه من الزرع ومن تهيئته من نوى التمر المرضُوخ المطبوخ ويقمن بالمساعدة في قطاف سنبل الدُّرَةِ والدخن عند الاستواء، وبلقاط سنبل القمح عند حصاده، بل كثيراً ما تُشاهد الرجال والنسوة متشاركين في جميع أعمال الزراعة بدون استثناء.
وبيوت الفلاحين وما تحويه من أمتعة وأوان تتناسب مع رقة أحوالهم، فالقصر المحاط بسور ذي باب يقفل ليلاً اتقاء لهجوم اللصوص، يحوي هذا القصر عدداً من البيوت بقدر السكان، والبيت قسمان: حوش مكشوف أكثره للمواشي، وبجانب منه مكان معد للطبخ وللتنور والقسم الثاني بهو مسقوف يدعى ( مُجيَّباً ) هو مجتمع أهل البيت للأكل والجلوس، وبداخله حجرة للنوم، يجتمع فيها كل أهل البيت غالبا ، وفي جانب منها بعض حاجات أهل البيت وفي سطح المنزل غرفة تغلق على ما أعد من طعام للمستقبل، والبناء كله من اللبن والطين، والسقوف من خشب الأثل، ولا نوافذ في البيوت، فلا تدخلها الشمس ولا الهواء . والاستنارة في الليل قد تقتصر على النار، واستعمال الشرج نادر في القرى، وكنت أعهد الاستصباح بالودك ـ الدهن المستخرج من الشحم – توضع قطعة منه في حجر محفور أو حق، ويوضع وسطها قطعة من قماش القطن دقيقة طويلة، توقد النار في طرفها ، فلا تلبث أن تمتص الدهن حتى ينفذ ، ثم استعملت سرج التنك بالقاز، بفتيلة من القطن، مكشوفة، يعبث بها الهواء. ويفرش بهو المنزل غالبا بالحصير الذي تنسجه النسوة من خوص النخل، وفرش النوم بساط من نسيج الصوف من غزل الغنم، تنسجه ربات البيوت، وقد يُشترى غالباً من البدو، واللحاف مثله، ومخدات النوم أكياس من القطن محشُوةٌ تبناً، وقد يكون اللحاف (مُضَربا ) وهو قماش يحشى قطنا، ولا يكون سميكا، ويسميه أبناء البادية (الجودري) ولعل أكثرهم يشترونه من سوق الجودرية، بمكة المكرمة. والألبسة قمصان من نسيج القطن الثخين للرجال وللنساء، إلا أن لون البستهنَّ أسود أو ملون ، وقد يتميز ثوب الزواج فيكون من الحرير الأخضر الناعم، أو ذي لون براق ، قد نُقش صدره، ووضع على جوانبه من التطريز ما تتفنن به الخياطة، مبديةً مقدرتها
الألبسة والحلي في القرى
ولباس النساء نوعان (المقطع ) وهو قميص ذو أكمام ضيقة، والثوب، وله أشكال متعددة، مفروج الجنبين، وتُطَرزُ الجيوب وأكمام القميص ويجعل على المتنين من الشياب قطع الحرير الملون، فيسمى الثوب (متفتاً ) القطعة (تفتة) وتنقش جوانب وجهه من أعلاه إلى أسفله، وهو (المسرح) ويسمى (المقود ) وما كانت النسوة يلبسن السروايل، ولا الرجال، إلا منذ عهد قريب . وتلبس المرأة نطاقاً تحت ملابسها من الجلد الناعم المفتول المبرم، يسمى (بريما ) وكذا الرجال، يُطوى فوق البطن طيات كثيرة ، وقد يستعيض الرجال عنه بشريحة من الجلد الناعم ذات إبزيم (بازم ) تدعى ( سبتة ) . وتعنى النساء بوسائل التجمل، فيستعملن الحناء، في حفلات الزواج وفي الأعياد، ويحرصن على إصلاح شعور رؤوسهن بتنظيفه ومشطه بالسدر المخلوط بالورس (العصفر ) وبشيء من أنواع الطيب، ويفرقنه، ويضفرنه ضفائر كثيرة، ويُطيِّبن أجسامهن وثيابهن ببخور العود (القماري ) أو ( الجاوي ) أو ( المصطكى) وبالزباد وبالمسك، متى وجد ذالك ، وقد تَدَّخِرُ من قوت أهل بيتها ما تدفعه للحصول على شيء منه . وتتحلى المرأة بأنواع من الحلي من الذهب والفضة والأحجار الكريمة متى قدرت على ذالك، ومن أنواع الحلية المعروفة الخواتم، وتلبس بالأصابع، وهي نوعان: ذوات فصوص كبيرة من العقيق الأخضر، وأخرى بشكل الحلقات تملأ بها الأصابع، وتكون الخواتم من الذهب أو الفضة. ومن أنواع الحلى : الهامة، وهي قطعة مستديرة من الذهب أو الفضة، مرصعة بأحجار كريمة توضع فوق هامة الرأس، وفي أطرافها ثقوب يمسك بها الشعر . ومنها (الفردة) وهي سلك من الذهب ، محني بشكل دائرة ، لا يلتقي طرفاه، تتحلى به المرأة في أنفها ، حيث يثقب طرف الأنف الأيمن ثقبا يدخل منه طرف ذالك السلك، ويتدلى باقيه، وغالبا ما نُضَدَ فيه من الأحجار الكريمة، ومُدَّ منه سلك يتصل بزمام الأذن، وهذا الزمام مسمار من الذهب في ثقب الأذن، معلق بطرفه حجر كريم، أو قطعة من الذهب أو الفضة. و من حُلى الأيدي (المفاتيل) سبائك مفتولة من الفضة، لكل يد (مفتول) وقد يستعاض عنها بـ ( المعاضد) واحدها (معضد) وهذه من الزجاج. و(الخصر ) عقد من الأحجار الكريمة (الخرز) يُلبس فوق الذراع. وحُلِيُّ الرقبة (القلائد ) وهي عقود من أحجار كريمة مختلفة، مفصلة بحبات من اللؤلؤ أو الجُمان – قطع الفضة ـ أو الذهب ، وقد تتعدد، فما ولي الرقبة وأحاط بها يدعى ( خناقة) ، وما طال وانحدر ( قلادة) ثم (لَيَّة) وهي ما صار فوق الصدر، وغالبا ما يكون عقدا يحوي قطعة كبيرة من الذهب أو الفضة. والحجل حُلي الرّجل شريحةٌ من الفضة بعرض ثلاثة أصابع، تحيط بأسفل الساق، ولا يلتقي طرفاها ، ويسمع رنينها عند المشي، وقد يُتَّخَذُ بدلها الخلخال، سلك دقيق من الفضة ، يلبس في أسفل الساق، و تعلق به قطع صغيرة من الأحجار الكريمة – من الخرز أو غيره – . وفي أيام الأعياد يلبس الرجال ثيابا زاهية البياض، من القطن الناعم المسمى (بفتة وكذا الأطفال والصبيان، وتزين صدور ثيابهم بتطريز بالإبرة بخيوط حمراء بجانبي جيب القميص، ويبالغ النساء بتجميل ثيابهن فيطرزن جوانبها وصدورها بواسطة الخياطة بأشكال تدل على ما يتمتعن به من ذوق سليم، وهن يعملن ذالك بأنفسهن غالبا ، وقد يكون في القرية من اشتهرت بإتقان ذالك فتتولاه ، ومع ذالك فقل أن يتولى خياطة ملابس القروي وملابس أبنائه غير زوجته. وأواني المنزل لا تزيد عن قدور قليلة من النحاس، وصحن منه ، أو صحفة من الخشب، ومغرفة كبيرة منه ، ويتولى صناعة أواني النحاس، ومنها السكاكين والمساحي والمناجل المحاش وأحدها محش) صُناع يطوفون بالقرى من طبقة تدعى (الصَّلبَة) وقد يوجد في القرية صانع، أو نجار لإعداد ما يُحتاج إليه من أوان وأدوات للزراعة .
عن نظافة جدتي
لم أر ذالك العهد – امرأة تهتم بالنظافة كاهتمام تلك الجدة ، فلم أشاهد في بيتها إناء مكشوفًا، ولا في أي مكان من البيت ما يُؤثر في نظافته، فحين تصبح تبدأ في كنسه من أعلاه إلى بابه، وترش جوانب منه بالماء خوفًا من الغبار، وتبقي بابه مغلقًا، ولا تترك منفذا فيه مفتوحا . وكانت تحسن نسج الخوص من سعف النخل، فتصنع منه حُصُرا – جمع حصير وأواني كالزبيل والوفر وأغطية للأواني (طبايق واحدها طباقة) ، وقد تُحلّي بعض ما تصنع ، فتنسج معه خُيُوطا من الصوف الأحمر (وشيع)، تبيع مما تعمل، وتستعمل في بيتها ، لقد كانت ـ رحمها الله ـ على أفضل ما تتصف به المرأة الفاضلة أخلاقا ، ونشاطا ، وقيامها بما يتطلبه بيتها من أعمال كإحضار الماء العذب من مكان خارج القرية، وكذا الحطب وعلف الأنعام، مع إعداد متطلبات المنزل من طحن وطبخ ونظافة وغيرها . ويتحدث أهل القرية أنها في إحدى المرات فلغت رأس رجل بمقشعتها آلة قلع الحشيش من الأرض – حين قرب من المكان الذي تجمع منه العشب ، فأمرته بالابتعاد عن مكانها فأبى فهجمت عليه وضربت رأسه بتلك الآلة فسقط على الأرض، ومن ثَم كان الذين يجمعون الكلا يبتعدون عنها . ولقد كنت أضعف إخوتي فكانت تمنحني مزيداً من الرعاية والعطف فتدللني كثيراً، وتلاعبني، وتناغيني حين ترقصني بين يديها بأهازيج لا أدري هل هي من قولها أو من حفظها ، ومنها : أعيدك بالله وذكرة ما شفت فيك الفكرة إلا الرمد والزكمة والعافية محكمة
والفكرة هنا الأمر المخوف – وكانوا لا يَعُدُونَ الزَّكَامَ وَالرَّمَدَ مِنَ الْأَمْرَاضِ
یا (حمد) یا (آبو ریاح) مطرقة في الخيل لاح
إن غزا جا باللقاح وان جلس فك المراح
( أبو رياح) فارس تتناقل العجائز حكايات بطولته، والمراح مكان الإبل والغنم، أي أنه يحمي أنعام أهله.
یا (حمد) یا (آبو مطله) الحق الخيـال قـل له
عندنا سمن ودَله والحليب مبرد له
أي: نحن على استعداد لإكرام الفارس الشجاع
عن أمي
كانت أُمي كثيرة العطف علي لما تشاهد من ضعفي، ولكنني لم أتمتع بهذا العطف طويلاً، فقد أصابتها قرحة سوداء في صدرها فمرضت حتى نزفت الدم من فمها، وماتت في أقل من أسبوع، وقد عاشت مع أبي ـ رحمهما الله ـ عيشة تعب وشقاء وفقر، وكان أبي حاد المزاج، يغضب ويثور لأقل الأسباب، ولكنها كانت كثيرة التحمل، شديدة الصبر ، لشفقتها على أبنائها الأربعة
المصدر: سوانح الذكريات، محمد الجاسر، الجزء الأول