مقالة مقتبسة لفارس الشدياق جاءت في مجموعة الأعمال المجهولة بتحقيق فواز طرابلسي وعزيز العظمة. يتحدث فيها الكاتب عن مقاراناته ومطالعاته لحال المرأة الأوروبية والمرأة العربية في موضوعات العمل والتعليم ومخالطة الرجال أنقل في هذه التدوينة الجزء الأول التي يستعرض فيها حجج الذين يؤيدون خروج المرأة وعملها وتعليمها وفي الجزء الثاني حجج الفريق الآخر
أحمد فارس الشدياق: أديب وشاعر ولُغوي ومؤرخ، وأحد رواد النهضة العربية الحديثة. عاش في في الفترة ما بين (١٨٠١م–١٨٠٥م) بقرية «عشقوت» في لبنان
إنه قد تقرر في عقول بعض الرجال أن المرأة إذا تعلمت القراءة والحساب وشاركت الرجل في رأيه وهمه ومصلحته، كان ذلك أدعى إلى حملها على محبته وصداقته وإلى ابتعادها عن خيانته وغشه. أما أولا فإن مطالعة الكتب ومعرفة أخبار الناس الغابرة والحاضرة تكسبها الفضائل. والمراد بالكتب هنا المفيدة المحتوية على تهذيب الأخلاق والحض على المكارم و المحامد وتعريف كل مخلوق بما يجب عليه لخالقه ولأبناء جنسه خصوصاً ولسائر الآدميين عموماً وذكر من سلفوا من أفراد الرجال الذين سنوا سنن الفضل وأرشدوا إلى سبيل الخير، لا الكتب المشتملة على صدح البلابل وإدارة الأقداح وجيل النساء ومن مات عاشقاً ومن عاش معشوقاً. والثاني أن المرأة إذا شاركت الرجل في رأيه ونيته وعمله اعتقدت بأنها مقيدة بأن بأن تساعده وتعينه على مصالحه وتهتم بشأنه في حالتي حضوره وغيابه. وزاد ذلك في محبتها له لأن المحبة لا تتمكن من شخصين إلا إذا كانا متشاركين في السريرة كما هو معلوم. وعلى هذا فكلما رأيت شخصين متآلفين ألفة أكيدة، فاعلم أن بينهما سراً قد ألف بينهما.
والثالث أن مشاركة المرأة زوجها في تعبه تبعدها في كثير عن الأهواء التي تستغوي المرأة الملازمة للبطالة وتحثها على الاشتغال بما يكسبها الذكر الحسن عند الاباعد والأقارب. فإذا سمعت اليوم أن واحداً من الناس يحمدها على فعلٍ ودت أن يحمدها اثنان في الغد على فعل آخر. ماعدا مافي هذه الحال من الراحة للرجل بخلاف ماذا كانت المرأة غير مشاركة لزوجها في هاتين الحالتين، أعني الرأي والتعب، فإنها تعتقد حينئذ أن الله تعالى لم يخلقها إلا للفراش. وإذا كان الأمر كذلك، فما يهمها شيء إلا الزينة والتأجيج والتنحيف والتخطيط والتصفيف والترحيب و التأشير و التخضيب والخوض في دواعي الحسن والتحسين والإعجاب بما عندها من الحلي واللباس فيحُوجها ذلك إلى التبرج وإظهار الزينة واللهو وما أشبه ذلك، والويل لمن كان له امرأة على هذه الصفة، والذي يساعد المرأة على هذا خصوصاً هو إذا كان لها جارية تكلفها حينئذ أشغال البيت وتجلس هي لمحادثة النساء اللائي يزرنها أو تخرج هي لزيارتهن فتقضي أوقاتها كلها في الأحاديث الفارغة والحكايات الغاوية. ومن الرجال من يعجبه أن تكون امرأته دائما متزينة و متحلية ظنا بأن هذه الزينة لمجرد إرضائه مكافاءة له على جميله. ومنهم من لايرى لزوماً لهذه الزينة في جميع الأحوال ولكن عند الاقتداء كوقت الزيارة مثلاً أو في الأعياد. فأما من لاقدرة له على الإسراف فإنه يضطر إلى إيثار هذه الحالة اضطراراً وإن كان ذلك لايخطر للمرأة على بال.
ثم إن هؤلاء الذين يرون تعليم المرأة القراءة والكتابة لازماً يرون أنه أيضا لامانع من معاشرتها الرجال ومحادثاتها لهم و مواكلتها و مماشاتها لهم. وهو مبنى على عدة أسباب منها أن شريعتهم لم تنههم عن ذلك فإذا حظروا النساء عنه فإنما يفعلونه غيرة عليهن. وقد كان انفراد النساء عن الرجال إلا نادراً حتى أن نساء النصارى في بر الشام إلى اليوم إذا ذهبن إلى الكنيسة جلسن منفردات وبينهن وبين الرجال حائل من شبابيك ونحوها كالذي يوضع على كوى ديار الاستانة.
المرأة إذا كانت متأدبة عاقلة فلا تزيدها مخالطة الرجال إلا أدباً وعقلاً، فإن العقل كما قيل مطبوع ومسموع. وهذا الثاني لا يحصل إلا من المعاشرة والمذاكرة وما دامت المرأة لا تكلم إلا إمرأة مثلها فلا يتأتى لها أن تطلع على أحوال الناس
الثاني أنهم يعتقدون أن المرأة إذا كانت متأدبة عاقلة فلا تزيدها مخالطة الرجال إلا أدباً وعقلاً، فإن العقل كما قيل مطبوع ومسموع. وهذا الثاني لا يحصل إلا من المعاشرة والمذاكرة وما دامت المرأة لا تكلم إلا إمرأة مثلها فلا يتأتى لها أن تطلع على أحوال الناس. وان الكتب وإن كانت مشحونة بالإفادات والأخبار إلا أنها لا تؤثر في مطالعها تأثير صوت الحي
الثالث أن المرأة إذا كانت قد حصلت من قراءة الكتب معارف من سخافة العقل تؤهلها إلى المشاركة في الكلام والرأي عظم شأنها عند الرجال فلم يكن من المحتمل انتهاك حرمتها بالمراودة والمغازلة أو أنها هي تبذل عرضها لهم حالة كونها تعلم أنهم يحترمونها ويعظمون مقامها. فابتذال المرأة عرضها للرجال لا يكون إلا والطيش. الرابع أن معاشرة النساء للرجال فيه اقتصاد عظيم، فإن الرجل المتزوج مثلاً إذا أحضر زوجته لدى زائريه لم يكن عليه أن يجعل في حجرتها لزائراتها ما يجعله في حجرته لزائريه سواء كان من أكل أو شرب أو نور أو نار أو خدمة بخلاف ما إذا اتخذ حريماً فإنه يلزمه حينئذ مضاعفة هذه الأشياء. واتخاذ الحريم على هذه الصفة يكلف نفقات باهظة ولا سيما في الآستانة فإن صاحب الدار يلزمه أن يتخذ خدمة لنفسه ولزوجته خوادم مخصوصات بها ولا سيما إذا كان الرجل ذا زوجتين. ولعل هذا الاشتراك في المصروف هو أقوى الأسباب التي حملت الإفرنج على الاشتراك في المعاشرة لأنه لا صبر لهم على تحمل النفقات لكثرة ما يطلب منهم من المال في مصالح متعددة تؤول إلى تعمير الوطن فهم يحاولون تخفيف النفقات في بيوتهم ماأمكن
الخامس أنه متى ساغ معاشرة النساء للرجال حصل منها الحرية للرجل كما يحصل للمرأة فأذا تعمدت المرأة خيانته من هذا الوجه جازاها هو من نفس عملها.
السادس أن ترخيص النساء في معاشرة الرجال سهل للمرأة أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما تتعطاه الرجال. ففي باريس ترى اللائي يبعن في الدكاكين أكثر من الرجال وهن اللواتي يقبضن ثمن ما يباع لا الرجال. وفي لندرة ترى النساء مستخدمات في مواضع أن آلات التلغراف في جميع إنكلترة تكاد أن تكون مخصوصة بهن. فإنها من الأعمال المهينة.
ومن من كانت على هذه الحالة فقلما يخطر ببالها الاشتغال بدواعي العشق والهوى والجموح في الشهوات مما هو من شأن النساء البطالات فإن البطالة شر الرذائل
لا بل تجد منهن في المعامل الشاقة مئات ألوف وقس على ذلك سائر أوروبا. وفي الجملة فالمرأة في بلاد الإفرنج معادلة للرجل في معاطاة الأعمال على قدر معادلتها له في القوة والجلد فكل ما يطقنه العمل يباشرنه. ومن من كانت على هذه الحالة فقلما يخطر ببالها الاشتغال بدواعي العشق والهوى والجموح في الشهوات مما هو من شأن النساء البطالات فإن البطالة شر الرذائل ولا سيما بطالة النساء فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل السنتهن بالأباطيل وقلوبهن بالأهواء الزائغة. فلا شيء يصون المرأة عن الرذيلة و يدنيها من عن الفضيلة أكثر من العمل مع أن في العمل فوائد أخرى من جهة صحة البدن. فالذين يتعودون البطالة والكسل هم أكثر الناس عللاً وأمراضاً. ولا تصيغ إلى من يقول إن العمل تعب والبطالة راحة وإن الراحة ادعى إلى الصحة من التعب. فإن الراحة لا يستطيبها الإنسان إلا من بعد التعب ومن قضى يومه أجمع بالبطالة فلا يمكن أنه يكون مستريحاً. وأقسم بالله العظيم أنه لا شيء أوجع لقلبي من أن أرى رجلاً يقضي نهاره كله في التنقل من محل قهوة إلى محل آخر أو في اللعب بالنرد والشطرنج والورق وإن كان أميراً غنياً العمل. وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي في حق النساء أوجب للوم لأن بطالة المرأة آفة من الآفات المستعاذ منها. فأعوذ بالله من امرأة تقعد خائضة في حديث جيرانها وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون وفيما هو عندها وليس عندهم أو فيما هو عندهم وليس عندها أو في أن تقول إني خصصت من المزايا بكذا وفقت على سائر النساء بكذا. ثم أعوذ بالله من رجل يقصر يده عن العمل ويطيل لسانه في أعراض الناس ويتثاءب ويتمطى وكلما حرضته على الكد قال لا ينبغي لي ولا يتأتى.