نص في وصف لبنان في الخمسينات ورد في مذكرات الكاتبة التشيلية ايزابيلا اللندي المعنونة ب” باولا” تتحدث فيه المؤلفة عن ذكريات سكنها ودراستها في بيروت أثناء عمل زوج والدتها الدبلوماسي هناك

كان  لبنان في سنوات الخمسينات بلداً مزدهراً، جسراً بين أوروبا وإمارات العرب الغنية، نقطة تقاطع طبيعية لعدة ثقافات، برج بابل، تدور الأحاديث فيه بعشر لغات. كان تجارة المنطقة كلها ومقارباتها المصرفية تدفع ضريبتها    لبيروت التي كانت وتصلها جواً طائرات من أوروبا تحمل آخر المستجدات، و تأتيها عن طريق البحر سفن  يتوجب عليها أن تنتظر في عرض البحر إلى أن يحين دورها في للرسو في الميناء. نساءٌ مبرقعات بالسواد يحملن حزماً كبيرة يجرجرون أبنائهن ويسرن مسرعات في الشوراع ويخفض نظرهن على الدوام. الرجال الكسالي يتبادلون الأحاديث في المقاهي، حمير، جمال، حافلات مزدحمة، و سيارات ودرجات نارية تتوقف كلها عند إشارات المرور الضوئية. رعاة يرتدون زي أسلافهم التوارتيين نفسه ويجتازون الشوراع العريضة وهم يقودون قطعان أغنامهم إلى المذبح. صوت المؤذن الحاد ينطلق عدة مرات في اليوم من أعلى مآذن المساجد داعيا ألى الصلاة ومشكلاً كورالاً مع أجراس الكنائس المسيحية. في محلات العاصمة التجارية تعرض أفضل بضائع الدنيا، ولكننا كنا نجد جاذبية أكبر في الذهاب إلى الأسواق التقليدية، وهي متاهة من الأزقة الضيقة التي تحف بها متاجر لاحصر لعددها، حيث يمكن شراء أي شيء بدءاً من البيض الطازج وحتى القطع الأثرية الفرعونية، آه، يا لرائحة تلك الأسواق! كل روائح الكوكب الأرضي تمر من تلك الشوارع المتعرجة. روائح المأكولات الرخيصة، والمقالي بدهن الخراف والحلويات العجينة، والجوز والعسل، والمجاري المكشوفة حيث تطفو القمامة والفضلات. ورائحة عرق الدواب، ودباغة الجلود، وعطور البخور والبترولي النفاذة، والقهوة المغلية لتوها مع حب الهال وتوابل الشرق: القرفة والكمون والفلفل والزعفران.. تبدو هذه الأسواق من الخارج تافهة ويائسة، ولكن كل واحد منها يمتد إلى الداخل في سلسلة من الإفناء المغلقة حيث يتلألأ المصابيح والصواني والأباريق المصنوعة من معادن غنية والمزينة بنقوش خطية. السجاجيد تغطي الأرض

كانت المساومة جزءاً أساسياً من عملية الشراء  وهذا مافهمته أمي منذ اليوم الأول. فعند سماعها السعر الإفتتاحي كانت تطلق صرخة ذعر وترفع يديها إلى السماء وتتجه نحو المخرج بخطوات حاسمة،

في عدة طبقات أو تعلق على الجدران أو تتراكم ملفوفة في الأركان. وهناك أثاث من الخشب المزخرف والمرصع بالصدف أو العاج أو البرونز يختفي تحت أكداس من الشراشف و المداسات المطرزة. ويخرج التجار للقاء الزبائن ويقودونهم بما يشبه الجر تقريباً إلى داخل كهوف علي بابا تلك المُترعة بالكنوز. ويضعون تحت تصرفهم جفنات لغسل الأصابع بماء الورد ويقدمون إليهم فناجين من القهوة الداكنة المحلاة، أفضل قهوة في العالم. وقد كانت المساومة جزءاً أساسياً من عملية الشراء  وهذا مافهمته أمي منذ اليوم الأول. فعند سماعها السعر الإفتتاحي كانت تطلق صرخة ذعر وترفع يديها إلى السماء وتتجه نحو المخرج بخطوات حاسمة، فيمسكها البائع من ذراعها ويسحبها إلى الداخل متعللاً بأنها عملية البيع الأولى هذا النهار، وأنها مثل أخته وتجلب له الحظ ولهذا فإنه مستعد لسماع رأيها بالرغم من أن السلعة فريدة في الحقيقة وسعرها أكثر من عادل. فتعرض أمي بهدوء نصف السعر الذي طلبه، بينما نخرج نحن بقية أفراد الأسرة متدافعين وقد احمرت وجوهنا خجلاً. فيضرب صاحب الدكان صدغيه بقبضتيه متخذا الله شاهداً على ما يقول،  حتى اتريدين لي الإفلاس أختي؟ لدي أولاد، وأنا رجل مستقيم ونزيه… وبعد تناول ثلاث فناجين قهوة وقضاء نحو ساعة في المساومة تنتقل السلعة من مالك إلى آخر. ويبتسم التاجر راضيا وتنضم أمي إلينا في الشارع وهي واثقة من أنها حققت صفقة رابحة. وفي بعض الأحيان كانت تجد السلعة نفسها تباع في دكاكين أخرى بسعر أرخص بكثير مما دفعته ثمناً لها، فكان ذلك يسمم يومها كله. ولكنه لا يخلصها من اغراءات العودة إلى الشراء. وكان أن ساومت بهذه الطريقة نفسها لشراء قماش من أجل فستان زفافي أثناء إحدى رحلاتنا إلى دمشق كنت قد أكملت للتو أربعة عشر عاماً من عمري  ولم أكن أقيم أي علاقة مع أي شخص من الجنس الآخر، باستثناء علاقتي بأخويّ و زوج أمي وصبي بدين هو ابن تاجر لبناني اعتاد زيارتي بين الوقت والآخر  تحت مراقبه والديه ووالدي. وقد كان غنياً لدرجة أنه يملك دراجةً نارية وسائقاً لها، ففي أوج حمى دراجات الفسيسا  الإيطالية ضايق أباه بالحاحه إلى أن جعله يشتري له واحدة. و لكن الأب لم يشأ المجازفة بتعريض أبنه لحادث اصطدام بتلك الآلية الانتحارية، فعين له سائقاً يقود الدراجة ويحمله خلفه. وقد كنت أفكر على أي حال بالدخول إلى سلك الراهبات لداري قناعتي بعدم قدرتي على الحصول على عريس، وهذا ما أوضحته لأمي ونحن في السوق الدمشقي، ولكنها قالت بإصرار٬ حماقات، فهذه فرصة فريدة للحصول على ثوب زفافك. وخرجنا من السوق ومعنا أمتار وأمتار من قماش الأبيض المطرز بخيوط الحرير وإضافة إلى عدة شراشف من أجل جهاز عرسي المستقبلي وحاجز بربان، وقد بقيت هذه الأشياء طوال ثلاثة عقود واجتازت مالا حصر له من الرحلات والمنافي. 

النساء لا يستطعن الخروج وحدهن، لأن يداً رجولية غير محترمة قد تمتد للإساءة إليهن في أي مكان مزدحم، وإذا ما حاولن الدفاع عن أنفسهن وجدن في مواجهتهن كورال من السخرية العدوانية.

لم تكن هذه المشتريات حافزاً كافياً لجعل أمي تشعر بالسعادة في لبنان، فقد كانت تعيش بإحساس من هي سجينة في جلدها نفسه. فالنساء لا يستطعن الخروج وحدهن، لأن يداً رجولية غير محترمة قد تمتد للإساءة إليهن في أي مكان مزدحم، وإذا ما حاولن الدفاع عن أنفسهن وجدن في مواجهتهن كورال من السخرية العدوانية. على مسيرة عشر دقائق من البيت كان يوجد شاطئ فسيح تغطيه رمال بيضاء ومياه كافة تغري بتبريد الجسد في اصائل آب اللاهبة. فكان علينا زن نخرج للسباحة مع الأسرة كلها مشكلين جماعة مغلقة لكي نحمي أنفسنا من أيدي من أيدي السباحين الأخرين المداعِبة، وكان من المستحيل الاستلقاء على الرمال، لأن ذلك يعني استدعاء المصيبة، فعلينا أن نهرع بسرعة بعد الخروج من الماء نحتمي في خيمة نستأجرها لهذا الغرض. 

صورة من الموسوعة الكاملة عن بيروت. المصدر https://www.yabeyrouth.com/

إن الحر، والاختلاف الثقافي، والجهد المبذول للتحديث بالفرنسية و الغمغمة العربية، و بهلوانيات تدبير الميزانية، والابتعاد عن الأصدقاء والأسرة كانت تثقل على أمي و تضايقها. 

كان لبنان تدبر أمور للعيش بسلام وازدهار على الرغم من الصراعات الطائفية التي تمزق المنطقة منذ قرون، و مع ذلك فإن تيار القومية العربية الصاعد بعد أزمة قناة السويس أحداث انقسامات عميقة بين السياسين ولم تعد المصالحة ممكنة. ووقعت اضطرابات عنيفة بلغت ذروتها في حزيران 1985 بإنزال الولايات المتحدة اسطولها السادس. ونحن الذين كنا نقيم في الطابق الثالث من بناء يقع عند ملتقى الحي المسيحي والاسلامي والدرزي كنا ننعم بموقع ممتاز لمراقبة الاشتباكات. لقد طلب منا العم رامون أن نوزع الفراش على النوافذ لنتقي الرصاص الطائش، وحظر علينا التفرج من الشرفة، بينما كانت أمي تبذل جهودا مضنية لإبقاء حوض الماء مملوءاً والحصول على أغذية طازجة. ففي أسوأ أسابيع الأزمة أسابيع الأزمة فرض حظر التجول عند الغروب، ولم يكن يسمح إلا للعسكريين وحدهم بالتجول في الشوارع، ولكن هذا الوقت بالذات كان وقت الاسترخاء، حيث كانت تخرج ربات البيوت للمساومة على البضائع في السوق ويخرج الرجال لممارسة أعمالهم. وكنا نشاهد من شرفة بيتنا اشتباكات شرسة بالرصاص بين جماعات متناحرة تستمر معظم النهار، ولكن ما إن يخيم الظلام حتى تتوقف الروايات بما يشبه السحر، وينسل أناس في كنف الليل للمتاجرة مع أعدائهم وتنتقل حزم بضائع غامضة من يد إلى أخرى. في تلك الأيام رأينا عمليات جلد المعتقلين المقيدين إلى أعمدة خشبية وصدورهم مكشوفة في مركز الدرك، ورأينا جثة رجل مذبوح يغطيها الذباب، وقد بقيت معروضة في الشارع يومين لإخافة الدروز. وشهدنا كذلك عملية الثأر حين تركت امرأتان محجبتان في الشارع حماراً محملا بالجبن والزيتون. فسارع الجنود كما هو متوقع إلى مصادرة الحمار، ثم سمعنا بعد قليل دوي انفجار حوّل زجاج النوافذ إلى فتات وغطى فناء الثكنة ببقع من الدم والأشلاء الآدمية. وعلى الرغم من مظاهر العنف هذه، فقد تولد لدي انطباع بأن العرب لم يأخذوا الإنزال الأمريكي على محمل الجد. في الواقع كان العم رامون قد تمكن من الحصول على تصريح وأخذنا جميعاً لرؤية السفن الحربية وهي تدخل الخليج ومدافعها جاهزة لإطلاق النار. كانت هناك حشود من الفضوليين على الأرصفة ينتظرون الغزاة للمتاجرة معهم والحصول على تصاريح للصعود إلي حاملات الطائرات. فتحت تلك المسوخ الفولاذية أشداقها وتهيات قوارب محملة بجنود المارينز المسجلين حتى الأسنان، فاستقبلوا على الشاطئ بعاصفة من التصفيق، وماعاد الجنود المعتدون يطؤوون اليابسة حتى وجدوا أنفسهم محاطين بجموع مرحة تحاول بيعهم كل أنوع البضائع، ابتداءً من المظلات وحتى الحشيش وواقيات مطاطية لمنع الحمل من صنع اليابان لها شكل أسماك متعددة الألوان. وأظن أنه لم يكن يكن يسيراً على الضباط الحفاظ على روح جنودهم المعنوية القتالية ومنعهم من التآخي مع العدو. وفي اليوم التالي: في حلبة التزلج على الجليد الصناعي كن اتصالي مع القوة العسكرية الأعظم في العالم. فقد تزلجت طوال فترة بعد الظهر مع مئات الشبان ذوي الملابس العسكرية والشعور الحليقة الذين يزينون عضلاتهم بالوشم. ويشربون البيرة ويتحدثون برطانة حلقية تختلف تماما عن اللغة التي كانت مس ساينت جون تعلمنا اياها في المدرسة البريطانية. لقد استطعت التواصل معهم بعض الشيء. ولكن لم يكن لدينا الكثير لنقوله حتى لو كنا نتحدث اللغة نفسها. في ذلك اليوم المشهود تلقيت القبلة الأولى على فمي، وكان ذلك كمن يعض ضفدعاً تنبعث منه رائحة العلكة والبيرة والتبغ. لست أذكر من هو الذي قبلني لأني لم أستطع تمييزه ع الآخرين فجميعهم كانوا يبدون لي متشابهين، ولكنني أتذكر أنني قررت منذ تلك اللحظة استكشاف مسألة القبلات. وكان علي لسوء الحظ أن أنتظر طويلا قبل أن أوسع معارفي في هذا الشأن، لأنه ما إن تبين للعم رامون أن جنود المارينز الطامعين بالفتيات قد اجتاحت المدينة. حتي ضاعف مراقبته وأبقانا حبيسة البيت مثل زهرة الحريم. 

لقد كان من حسن حظي أن مدرستي هي الوحيدة التي لم تغلق أبوابها عند بدء الأزمة، أما أخواي بالمقابل فتوقف عن الذهاب للدروس وأمضيا شهوراً من الضجر القاتل وهما حبيسا البيت. لقد نظرت مس ساينت جون بازدراء إلى هذه الحرب التي لا يشارك فيها الانكليز، وفضلت تجاهلها. كان الشارع المقابل للمدرسة مقسوماً إلى فئتين تفصل بينهما صفوف من أكياس الرمل، يترصد وراءها الخصوم المتنازعون. كان مظهرهم يبدو مريعاً في الصور التي تنشرها الصحف، وكانت أسلحتهم مرعبة، ولكن رؤيتهم من أعلى المبنى وهم وراء متاريسهم تجعلهم يبدون مثل مصطافين يقومون بنزهة. ففيما هم وراء أكياس الرمل كانوا يستمعون إلى المذياع، ويطبخون طعامهم، ويستقبلون زيارات نسائهم وأطفالهم، ويقتلون الساعات في لعب الورق أو الداما أو في نوم القيلولة. وقد يتفقون مع عدوهم في بعض الأحيان للخروج بحثاً عن الماء أو السجائر. وفي أحد الأيام اعتمدت مس ساينت جون الباسلة قبعتها الخضراء التي تستخدمها في المناسبات الكبرى، وخرجت لتتفاوض بعربيتها غير الواضحة مع أولئك الأشخاص الذين يعرقلون المرور في الشارع طالبة منهم أن يسمحوا للحافلة المدرسية بالمرور، بينما كانت الطالبات القليلات المتبقيات والمعلمات المذعورات يراقبنها على السطح. لست أدري ماهي الحجج التي استخدمتها، ولكن السيارة واصلت العمل في مواعيدها الدقيقة إلى أن أصبحت تأتي دون تلميذات، وكنت أنا الوحيدة التي واظبت على المجئ فيها. كنت أحترس في البيت من القول إن أباء آخرين قد سحبوا بناتهم من المدرسة ولم أذكر على الإطلاق المفاوضات اليومية التي يقوم بها السائق مع رجال المتاريس ليسمحوا لنا بالمرور. لقد واظبت على الدروس إلى أن اضطرت مس ساينت جون إلى الطلب مني ألا أعود إلى المدرسة لبضعة أيام. ريثما يتم التوصل إلى حل لهذا الحادث الفظ ويعود الناس إلى رشدهم. في أثناء ذلك كان الوضع قد أصبح عنيفاً جدا، ونصح ناطق باسم الحكومة اللبنانية الدبلوماسيين بإخراج أسرهم من البلاد لأن الحكومة لا تستطيع ضمان سلامتهم. 

وبعد عدة اتصالات سرية، وضعني العم رامون مع أخويّ في واحدة من آخر الرحلات الجوية في تلك الأيام. كان المطار أشبه بخلية تعج برجال يصارعون لمغادرة البلاد، وكان بعضهم يحاول أخذ زوجته و أبناءه في الشحن، فهو لا يعتبرهم بشراَ كاملين ولا يستطيع تفهم ضرورة شراء تذاكر سفر لهم. ومعان ارتفعت الطائرة عن المدرج حتى استعدت امرأة متشحة بالسواد من رأسها حتى قدميها لطهو الطعام في ممر الطائرة على موعد كيروسين أمام ذعر المضيفات الفرنسيات وفزعه.