قدم زياد بن أبيه البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان، كانت البصرة تعاني انفلاتا أمنيا وأخلاقياً فقام أول ماقدم إلى البصرة بإلقاء خطبته المشهورة التي تسمى حينا بالبتراء، لأنها خلت من التقديم المعتاد بالحمد على الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
يبدأ زياد الخطبة بنقد شديد اللهجة لأهل البصرة وذم شديد لما وصلت إليه حالهم من فساد منتشر و نهب و سلب وتسلط للأقوياء على الضعفاء واضطرابات سياسية أنتجت الخوف وعدم الاستقرار.
أنتقي من الخطبة هذه الفقرات التي وضع فيها زياد مسودة ما يعده جريمة و ما هي العقوبات التي يضعها في المقابل، إلا أنني أنتبه أنه لايمكننا فصل السياق التاريخي والأوضاع غير المستقرة آنذاك للبصرة عن الخطبة ما–قد– يوضح بعض الشيء أسباب الحدة والتطرف التي اتسمت بها لهجة زياد في هذه الخطبة.
” وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي ، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم …. أو تستقيم قناتكم“
يهدد زياد البصريين بأن الجميع مؤاخذ بما يحصل،المسؤولية جماعية والعقوبة جماعية وهي حالة تنافي وتهدد المسؤولية الفردية عن الأفعال الشخصية التي هي قوام وأساس العدل ومصدره. يروى أن أبو بلال مرداس بن أمية همس وقتها وهو يقول :” أنبأنا الله بغير ما قلت. قال الله : (وإبراهيم الذي وفى* ألا تزر وازرة وزر أخرى). وأنت تزعم أنك تأخذ البرئ بالسقيم والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر ” فسمعها زياد فقال ” إنا لا نبلغ فيك وفي صحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا “. يؤكد زياد في هذا الشاهد أن هذا الأمر باطل ولاحق فيه لكن تستدعيه الحالة التي وصلت إليها البصرة كما يظهر. فهل يجعل زياد هنا غايته تبرر وسيلته ؟
” فإياي ودلج الليل ، فإني لايؤتى بمدلج إلا سفكت دمه “
وضع زياد بهذه العبارة كما تشير بعض المصادر أول قانون حظر تجول في التاريخ، وبهذه العبارة سن وشرع قانونا جنائيا عقوبته من الدرجة الأولى. وقد كانت الظروف السياسية والأمنية مضطربة وينتشر النهب والسلب والفوضى ، ولصعوبة ضبط المتلبسين ليلا، والتعرف عليهم ،والضبط الأمني عموما وجد زياد أن الحل الأفضل في مثل هذه الأوضاع هو جعل أي مخترق لهذا القانون هو جان ومتسبب لعقوبته.ومهما كان من شبهة ومن ظن ومن انتفاء للقصد الجنائي فإن عقوبة كعقوبة القتل التي ستوقع لامحالة بالجاني قد تدل على قسوة وشدة قد تكون جالبة لمصلحة ما لكنها لا تبرر عدم تناسب الجريمة لعقوبتها. ورغم أن زياد يبدو أنه هنا يضع تشريعات بدون استحضار للمرجعية الدينية والشرعية التي يستمد منها هذه الأحكام فإنه يبدو كمجتهد له حق وضع التشريعات التي تناسب رؤيته للمصالح التي تراعاها. مع أنها قد تتافى تماما مع المصدر الأساسي للتشريع آنذاك وهو القرآن. والمتأمل في هذه المواقف وأشباهها في التاريخ الإسلامي يستشف أن السلطة السياسية كانت دائما طاغية على السلطة القضائية وأن مرجعياتهم مختلفة، فالسلطة السياسية مرجعيتها هي رغبة ورأي الوالي والحاكم أو ولي الأمر وأحكامه لاتقاس بمسطرة الشريعة ولا تفصل على حسبها بينما غالبا ما تكون السلطة القضائية خاضعة لها و القائمين بها هم قضاة متفقهين في الدين و لديهم ما يؤهلهم للفهم والاجتهاد الشرعي القضائي.
” وقد أجّلتكم بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم “
لأن القانون الجديد بحظر التجول جديد على أهل البصرة، لأنهم لم يعرفوه من قبل ولا سمعوا به، فقد جعل هذا زياد يضع وقفا لتنفيذ هذا القانون حدده بمقدار ما يصل هذا الخبر للكوفة و يتداوله الناس ويقوم الجدل، بعد ذلك سيدخل حيز النفاذ وسيكون حجة على الجميع لا يعذر أحد بجهله. تورد كتب التاريخ عن قصة الأعرابي الذي جيء به مدلجاً فسأله زياد : هل سمعت النداء ؟ قال : لا والله ، قدمت بحلوبة لي، و غشيني الليل، فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح ، ولا علم لي بما كان من الأمير. قال زياد : أظنك والله صادقا لكن في قتلك صلاح هذه الأمة ثم أمر به فضربت عنقه!
فمؤاخذة هذا الأعرابي بالقانون الصادر لتوه بعد نفاذه واعتماده رغم جهله وحداثة عهده بالبصرة كما تخبرنا الرواية لم يستثنه من تطبيق العقوبة المقررة، رغم رغبة الأمير الواضحة لضحايا يكونون دليلا جازما على حزمه وجدية تطبيق قوانينه! رغم أنه كان واضحا حينما ذكر أن كذبة الأمير بلقاء مشهورة وأنه لن يحيد عن وعوده حين تحداهم بأن لايطيعوه إذا أخذوا عليه كذبة أو خالف مايقول ” فإن تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي “.
“إياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه “
يبدو جليا أن زياد كان حريصا على لحمة مجتمع البصرة ونزع أسباب الشقاق والفرقة، لكنه مرة أخرى يضع عقوبات مشددة وقاسية لأعمال جرمها. من يدعو إلى العصبية والقبلية والتحزب سيقطع لسانه في قانون زياد . عقوبة قطع اللسان لم تشرع في الإسلام ولايمكن الحكم بها إلا في حالات القصاص الجزئي (العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص )، لكن التاريخ الإسلامي عامر بتهديد كهذا خصوصا لمن كان سلاحهم أو عتادهم هو لسانهم كالشعراء والخطباء. لكن توظيف عقوبة قطع اللسان في دعوات الناشطين المتعصبين لأمر ما لايوافق” المشرعّ” جيدا كان أم سيئا هو أمر استجده زياد وشرعّه في حق أهل البصرة الذين يبدو أنهم مشاغبين جدا حتى يهددوا بكل هذه التهديدات !
“وقد أحدثتم أحداثا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة “
في التشريع الإسلامي يجوز لولي الأمر أو القاضي المجتهد أن يجتهد في اختيار العقوبة المناسبة لأي جرم عقوبته لم تقنن في الفقه الإسلامي، والعقوبات المقننة في الإسلام محدودة وهي القصاص من النفس ومادون النفس وجرائم الحدود (السرقة، الزنا ، القذف ، الحرابة…). يفسر زياد بن أبيه أسباب وضع العقوبات الجديدة أو يسببها بأنهم استحدثوا أمورا ومشاكل وجرائم لم تكن معهودة لذلك ستكون العقوبة مستحدثة كذلك. ليس هناك ذنب بلا عقوبة. والمذنب سيعرف فيما يأتي العقوبات التي نص زياد على عقوبتها في قانونه الشفهي.
” من غرق قوم غرقناه، ومن حرق قوم أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، ولا تظهر من أحدكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه “.
مرة أخرى يظهر الخطاب الشمولي لزياد، الجزاء من جنس العمل في جرائم القتل بالتغريق و التحريق، وهذا مبرر ربما. لكن المبالغة واردة في جزء منها مثل عقوبة السرقة (نقبنا عن قلبه ) أما عقوبة نبش القبور وهي دفن الإنسان حيا فهي عقوبة جاهلية قابلة للتطبيق فقط في مجتمع يعيش بربرية ما أو مجتمع عانى من ظلال العنف والإجرام بحيث لم تعد تلك العقوبات مستنكرة فيه نتيجة لتقابلها مع الانحدار السلوكي والأخلاقي الإجرامي.
يمكن استخلاص الجرائم والعقوبات التي نصت عليها خطبة زياد من خلال الجدول التالي :
العقوبة | الجرم |
القتل | الدلجة (السير والخروج ليلا) |
قطع اللسان | الدعوة إلى العصبية (دعوى الجاهلية) |
القتل بالإغراق | القتل بالإغراق |
القتل بالتحريق | القتل بالتحريق |
القتل (نقبنا عن قلبه ) | النقب(نهب البيوت) |
القتل بالدفن حيا في ذات القبر | نبش القبور |
القتل | الريبة والاختلاف عن العامة بأمور مشبوهة (غالبا شبه سياسية أو مذهبية ) |
من خلال حصر هذه الجرائم وعقوباتها المذكورة، يلاحظ القارئ أن السمة السياسية والأمنية تطغى عليها.والنص السياسي قد يختلف عن النص التشريعي والقانوني. الأول لايكون ملزما دائما وهو يعبر عن رؤية إصلاحية أو اجتهادية لدى الحاكم أو المسؤول قد تكون مؤقتة ومخصصة لحالة ما. لكن النص التشريعي والقانوني سار المفعول وعام لا يقف تطبيقه على حالات معينة. لذلك تجد في خطابه لمحة من الرغبة في الإصلاح وأمل التخفيف في حال تحسن الحالة الأمنية للمجتمع في قوله : ” أو تستقيم قناتكم ” “وأعينوا على أنفسكم ” فهل يمكننا اعتبار هذه الحالة قانونا للطوارئ استحدثه زياد ليحكم قبضته الأمنية والسياسية على مجتمع البصرة المضطرب !
من ضمن المآخذ القانونية على خطاب زياد، ماذكره الطبري بأنه أول من أخذ بالظن في الحكم بالعقوبة و بالشبهة مع أنها في التشريع الإسلامي تدرأ الحد وتعفي الجاني من العقوبة. ففي كتابه تاريخ الأمم والملوك يقول ” كان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس بالطاعة وتقدم في العقوبة وجرد السيف وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، و خافه الناس في سلطانه خوفا شديدا، حتى أمن الناس بعضهم بعضا حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد. فيأتيه صاحبه فيأخذه وتبيت المرأة فلا تغلق بابها عليها. وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحدا قبله ..”.
المراجع :
- الطبري ، تاريخ الأمم والملوك، الجزء الرابع .
- الجاحظ ، البيان والتبيين، الجزء الأول. (نص الخطبة ).
- المسعودي ، مروج الذهب ، الجزء الرابع .
كتبتها: هند الصبار
@hind_alsbbar