ألف أبو الفتح نصر الله ضياء الدين الشيباني المعروف بابن الأثير كتاب “ المثل السائر”. وتناول فيه المؤلف في مجلدين كل ما يتعلق بفن الكتابة.
أنقل لكم حديثه عن أدوات الكاتب الضرورية لفنه ولمهنته.
اعلم أن صناعة الكلام من المنظوم والمنثور تفتقرُ إلى آلاتٍ كثيرة، وقد قيل: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كل ذي علم يَسُوغ له أن يَنْسُب نفسه إليه فيقول: فلان النحوي، وفلان الفقيه، وفلا المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة فيقول: فلانٌ الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن.
ومِلاك هذا الطبع، فإنه إذا لم يكن ثمَّ طبع فإنه لا تغني تلك الآلات شيئاً، ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد والحديدة التي يُقدح بها، ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار، لاتفيا تلك الحديدةُ شيئاً؟
وكثيراً ما رأينا وسمعنا من غرائب الطباع في تعلم العلوم، حتى إن بعض الناس يكون له نفاذ في تعلم علمٍ مُشْكل المسلك صعب المأخذ، فإذا كُلِّفَ تعلم ما هو دونه من العلوم نكص على عقبيه، ولم يكن له فيه نفاذ.
وأغرب من ذلك، أن صاحب الطبع في المنظوم يجيدُ في المديح دون الهجاء، أو في الهجاء دون المديح، أو يجيد المراثي دون التهاني، أو في التهاني دون المراثي، وكذلك صاحب الطبع في المنثور، هذا ابن الحريري صاحب المقامات، قد كان- على ما ظهر منه من تمنيق المقامات واحداً في فنِّه، فلما حضر ببغداد ووقف على مقاماته، قيل: هذا يستصلح لكتابة الإنشاء في ديوان الخلافة، ويحسن أثره فيه، فأحضر، وكُلِّف كتابة كتاب، فأُفحم، ولم يجر لسانه في طويلة ولا قصيرة، فقال فيه بعضهم:
شيخٌ لنا من ربيعة الفُرسِ يَنتِفُ عُنْثُونهُ من الهوسِ
أنطقه اللهُ بالمِشانِ وقد ألجمه في بغداد بالخرسِ
وهذا مما يُعجب منه.
وسُئلت عن ذلك فقلت، لا عجب، لأن المقامات مدارها جميعاً على حكاية تخرج إلى ملخص. وأما المكاتبات فإنها بحر للساحل له. لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادثِ الأيام. وهي متجددة على عدد الأنفاس، ألا ترى أنه إذا خطب الكاتب المُفْلِق عن دولة من الدول الواسعة التي يكون لسلطانها سيف مشهور، وسعي مذكور، ومكث على ذلك برهة يسيرة لا تبلغ عشر سنين، فإنه يدون عنه من المكاتبات ما يزيد على عشرة أجزاء. كل جزء منها أكبر من مقامات الحريري حجما، لأنه إذا كتب في كل يوم كتاباً واحداً اجتمع من كتبه أكثر من هذه العدة المشار إليها، وإذا نخلت وغُربلت واختير الأجود منها إذ تكون كلها جيدة، فيخلص منها النصف، وهو خمسة أجزاء. والله يعلم ما اشتملت عليه من الغرائب والعجائب وما حصل في ضمنها من المعاني المبتدعة. على أن الحريري قد كتب في أثناء مقاماته رِقاعاً في مواضع عدة، فجاء بها منحطةً عن كلامه في حكاية المقامات، لا، بل جاء بالغث البارد الذي لا نسب له إلى باقي كلامه فيها. وله أيضا، كتابة أشياء خارج المقامات، وإذا وقف عليها أقسم أن قائل هذه ليس قائل هذه، لما بينهما من التفاوت البعيد.
وبلغني عن الشيخ أبي محمد عبدالله بن أحمد، بن الخشاب النحوي رحمه الله، أنه كان يقول: ابن الحريري رجل مقاماتٍ، أي أنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها. وإن أتى بغيرها لا يقول شيئاً.
فانظر أيها المتأمل إلى هذا التفاوت في الصناعة الواحدة من الكلام المنثور، ومن أجل ذلك قيل: شيئان لانهاية لهما: البيان والجمال. وعلى هذا فإذا ركب الله تعالى في الإنسان طبعاً قابلاً لهذا الفن فيفتقر حينئذ إلى ثمانية أنواع من الآلات.
النوع الأول: معرفة علم العربية من النحو والتصريف
النوع الثاني: معرفة ما يحتاج إليه من اللغة، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب ولا المستكره المعيب.
النوع الثالث: معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثالِ أيضا.
النوع الرابع: الاطلاع على تأليفات من تقدمه من أرباب هذه الصناعة المنظومة منه والمنشورة، والتحفظ للكثير منه.
النوع الخامس: معرفة الأحكام السلطانية، الإمامة، والإمارة والقضاء، والحِسبة، وغيرها
النوع السادس: حفظ القرآن الكريم، والتدرب على باستعماله وأدارجه في مطاوي كلامه
النوع السابع: حفظ ما يحتاج إليه من الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلوك بها مسلك القرآن الكريم في الاستعمال
النوع الثامن: وهو مختص بالناظم دون الناثر وذلك علم العروض والقوافي الذي يقام به ميزان الشعر
وتحت كل نوع يمكن قراءة تفصيل المؤلف فيه في كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، طبعة المكتبة العصرية- الجزء الأول صفحة 30.