مقال للفيلسوف الإيطالي فريدريتش نيتشه (15-أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) من كتاب (العلم المرِح)

غدا الواحدُ منا يحيا مثل من لو يسكنه بصفة مستمرة خوف من أن “يفوته شيءٌ ما”.

أوقات الفراغ والعطالة، هناك وقت هندي متصل بوحشية السكان الأصليين للقارة الأمريكية في ذلك التكالب على الذهب لدى الأمريكيين. ذلك الإقبال المحموم على العمل- مرض العالم الحديث الأساسي- قد شرع -عن طريق توحيش القارة الأوروبية القديمة، ونشر فقر عقلي غريب في رُبوعها. أصبح المرء يستحي الآن من الراحة، والتأمل الطويل غدا مثيراً للإحساس بالذنب تقريباً. أصبحنا نفكر مُمسكين بالساعة، كما نتناول غداءنا و عينانا مثبتين على نشرة البورصة- غدا الواحدُ منا يحيا مثل من لو يسكنه بصفة مستمرة خوف من أن “يفوته شيءٌ ما”. ” أن تفعل أي شئ خير من ألا تفعل شيء”. هذا المبدأ أيضا هو الذي يوضع حول رقبة الثقافة وكل ذوقٍ رفيع. وعلى هذا النحو الذي تضمحل فيه الأشكال في هذا اللهاث وراء العمل. كما هو بيّنٌ للعِيان، يتم كذلك تدمير حِسّنا بالشكل أيضا، وكذلك الأذن والعين المناسبتين لتناغم الأصوات والحركات. وأكبر دليل على هذا هو مانلمسه اليوم من هذه الدقة الفجة في كل المواضع والأوضاع. حيث يريد المرء أن يكون صادقاً مع أصدقائه، مع النساء، والأقارب والأطفال والمعلمين والتلامذة والقادة والأمراء٬ لم يعد لدينا من وقت وطاقة للاهتمام بالأشكال والطقوس، و لطرائق اللطف المرهفة في المعاملة. ولكل روح المحادثة والتسلية، وللفراغ عموماً. فحياةُ الركض وراء الربح تضغط وتدفع باستمرار إلى إنفاق كل الطاقات الذهنية حد الاستنزاف. في حالة دائمة من التستر والمراوغة والتحايل والحرص على نيل الأسبقية: فالفضيلة الأولى اليوم هي أن تنجز شيئاً بأسرع مايمكن وقبل أي أحد آخر. وهكذا لا يظل للمرء سوى القليل من وقت يسمح بشيء من أشكال اللياقة: لكن خلال تلك الساعات القليلة، يكون المرء متعباً وتكون رغبته الوحيدة، لا في أن يدع الأمور تجري كما يحلو لها فحسب، بل في أن يستلقي بكل ثقله ويستسلم إلى الراحة.

حتكر العمل في كل يوم نصيباً أكبر من راحة الضمير التي تزكيه. وغدا الميل إلى المرح يسمى حاجة للراحة. وأصبح ينتابه أكثر فأكثر إحساس بأنه موضوع للخجل. “لصحتك عليك حق” أصبح يقول الناس معتذرين عندما يضبط أحدهم في حالة تلبس بالاستراحة

ووفقاً لهذا الميل، أصبح الناس يكتبون اليوم رسائلهم أيضا، التي راح أسلوبها وروحها يعكسان أكثر فأكثر “روح العصر” وإذا ماظل من متعة في العلاقات الاجتماعية وفي الفنون، فلا تكون أكثر من متعة يتدبرها لأنفسهم عبيد متعبون ومنهكون. و يالبؤس التواضع القنوع فيما يتعلق ب” البهجة” لدى مثقفينا و جهلتنا. و يالتلك الريبة المتزايدة تجاه كل فرح! يحتكر العمل في كل يوم نصيباً أكبر من راحة الضمير التي تزكيه. وغدا الميل إلى المرح يسمى حاجة للراحة. وأصبح ينتابه أكثر فأكثر إحساس بأنه موضوع للخجل. “لصحتك عليك حق” أصبح يقول الناس معتذرين عندما يضبط أحدهم في حالة تلبس بالاستراحة. أجل ومن المحتمل أن تمضي الأمور عما قريب إلى حد يصبح معه الإنسان لايستسلم إلى الميل إلى شيء من حياة التأمل (أي إلى النزهة والتفكير وملاقاة الأصدقاء) دون إحساس بالذنب و باحتقار الذات. إلا أن الأمر كان على النقيض من ذلك فيما مضى.: العمل هو ماكان مقترنا بالإحساس بالذنب، وكل إنسان ذي أصل نبيل كان يخفي عمله عندما تضطره الحاجة للعمل. وكان البعد يعمل تحت ضغوطات الإحساس بأنه يقوم بنشاط مُحتقر. بل إن النشاط نفسه كان مُحتقراً. “مامن نبالةٍ وشرف إلا في العطالة والحرب” ذلك ما كان يقول به الحكم المسبق في العصور القديمة.