رسالة ملهمة من كتاب ” رسائل إلى شاعر شاب لراينر ريلكه .

رينيه كارل رايلكه الشهير بـ راينر رايلكه (4 ديسمبر 1875 – 29 ديسمبر 1926) شاعر نمساوي – بوهيمي/ رومانسي / حداثي،

تسأل إذا ماكانت أشعارك جيدة، تسألني أنا، ولعلك سألت غيري قبل ذلك، وأرسلتها إلى مجلات، وقارنتها” بقصائد أخرى، وشعرت بالقلق عندما رفضت بعض هيئات التحرير محاولاتك. الآن (لأنك سمحت لي بأن أسدي إليك النصح) أرجوك أن تتخلى عن ذلك كله . إنك تنظر إلى خارجك، وهذا بالدرجة الأولى مايجب عليك ألا تفعله. ليس بوسع أحد أن ينصحك ويساعدك، لا أحد. لاتوجد إلا وسيلة واحدة، عليك بسبر أغوار ذاتك، عليك بالبحث في السبب الذي يدفعك إلى الكتابة. انظر إذا كانت جذوره متوغلة في أعمق مكان في قلبك، واسأل نفسك إذا كانت الكتابة بالنسبة إليك دونها الموت. والأهم اسأل نفسك في أكثر ساعات الليل سكونا: هل علي أن أكتب؟ نقّب في نفسك عن إجابة عميقة. وإذا كان الرد بالإيجاب، إذا كان ردك على هذا السؤال الجاد هو قولك وببساطة: ” علي أن أكتب“، فعليك أن تبني حياتك تبعاً لتلك الضرورة، يجب أن تصبح حياتك، حتى لحظاتها التي لاتكترث لها تماماً، تعبيراً عن هذه الضرورة المُلحة، وشاهداً عليها. 

إذا بدت لك حياتك اليومية قاحلة فلا تلُمها، بل لُم نفسك، قل لنفسك إنك لست شاعراً بما يكفي كي تستدعي ثرواتها، لأن الإنسان المبدع لايعرف الفقر، ولايرى مكاناً فقراً أو غير ذي بال

عندها، اقترب من الطبيعة، ثم حاول، كما حاول الانسان الأول، أن تعبر عما ترى وتعايش، وتحب وتفقد. لاتكتب قصائد حب، تجنب في البداية  تلك الأشكال المعهودة والمعتادة. إنها الأصعب لأن المرء يحتاج إلى طاقة كبيرة وناضجة كي يكتب شيئاً خاصاً في مجالٍ وصلتنا فيه آلاف من الكتابات الجيدة والباهرة أحياناً. انج بنفسك من معالجة المواضيع العمومية إلى تلك التي تتيحها لك حياتك اليومية. صف أحزانك وأمانيك، والأفكار التي تعترضك وإيمانك بأي جمال ما- صف ذلك كله بصدق حميم وهادئ ومتواضع- واستخدم، لتعبر عن نفسك، الأشياء الموجودة في محيطك والصور التي تظهر في أحلامك، والأشياء التي تحتفظ بها ذاكرتك. أما إذا بدت لك حياتك اليومية قاحلة فلا تلُمها، بل لُم نفسك، قل لنفسك إنك لست شاعراً بما يكفي كي تستدعي ثرواتها، لأن الإنسان المبدع لايعرف الفقر، ولايرى مكاناً فقراً أو غير ذي بال. وحتى لو كنت حبيس سجن تمنع أسواره أصوات العالم أن تترامى إلى مسامعك، أفلن تبقي لديك طفولتك، ذلك الثراء الملكي الممتع، خزانة الذكريات تلك؟ اصرف انتباهك إلى هناك. حاول أن تستعيد الأحاسيس التي غابت في غياهب ماض بعيد،  عندها ستترسخ ملامح شخصيتك. وسيتسع فضاء وحدتك ليصبح منزلاً في ساعة الشفق، يمر ضجيج الآخرين بعيداً عنه. فإذا خرجت من رحم ذلك التحول إلى داخلك ومن ذلك الغوص في عالمك الخاص، قصائد، فإنك لن تفكر حينها في أن تسأل أحداً  إذا كانت أشعارك جيدة. كما لن تحاول كسب اهتمام المجلات لكل الأعمال. لأنك سترى فيها شيئاً طبيعياً محبباً إلى قلبك وجزءاً من حياتك وصوتاً لها. 

يكون العمل الفني جيداً حين يأتي عن ضرورة، الحكم على الشعر لايكون إلا بناءاً على نوعيه منشئه هذا، لذلك سيدي العزيز، لم أجد لك من نصيحة إلا تلك، تعمق في ذاتك، وابحث في أعماقها التي تنبع منها حياتك، ففي نبعها ستجد الإجابة على السؤال ما إذا كان عليك أن تبدع؟ خذها كما تبدو، من دون تأويل. ربما يتضح عندها أنك خلقت لتكون فناناً. وساعتها خذ المغامرة، وتحمل هذا القدر بمعاناته وعظمته، من دون أن تطلب أبدا المكافأة التي يمكن أن تأتي من الخارج، لأن المبدع يجب أن يكون عالَماً قائماً بذاته. وأن يجد كل شيء في داخل نفسه وفي الطبيعة التي ارتبط بها. 

يكفي كما قلت أن يشعر المرء أن بإمكانه الحياة بدون كتابة، حتى يكون الأجدر به ألا يكتب تماما

وربما تضطر، بعد ذلك في الغوص في وحدتك، أن تتخلى عن  فكرة أن تكون شاعراً (يكفي كما قلت أن يشعر المرء أن بإمكانه الحياة بدون كتابة، حتى يكون الأجدر به ألا يكتب تماما). ولكن حتى في تلك الحالة فإن هذا الاستبطان، الذي أرجوك القيام به، لن يذهب سُدى. إذ ستجد حياتك على أي حال من تلك اللحظة طرقاً خاصة بها، وأتمنى، أكثر مما يمكنني قوله:أن تكون الطرق جيدة، وغنية، ورحبة. “