من مقالة بعنوان: الشاعر، للكاتب والشاعر الأمريكي رالف رادلو امرسون المتوفى في ١٨٨٢م:

يحترم الشاب الرجال العباقرة، لأنهم في الواقع يمثلونه أكثر مما تمثله نفسه. إنهم يتلقون الروح كما يتلقاها، لكنه يتلقى أكثر. في عين من يهواها، يزيد جمال الطبيعة اعتقاد الناس أن الشاعر يرى مفاتنها في نفس الوقت الذي يرونها فيه. إنه معزول بفنه وبالحقيقة عن معاصريه، لكن عزاؤه يكمن في مسعاه، الذي سوف يجتذب الناس جميعًا عاجلاً أو آجلاً. لأن جميع الناس يعيشون على الحقيقة، ويعانون من الحاجة إلى التعبير. في الحب، وفي الجشع، وفي السياسة، وفي العمل، وفي اللعب، نحاول أن نفوه بسرنا المؤلم. إن الإنسان ليس سوى نصف نفسه، أما النصف الآخر فهو تعبيره.

على الرغم من هذه الحاجة إلى الذيوع، فإن التعبير المناسب أمر نادر. لست أدري لماذا نحتاج إلى مترجم، لكن الغالبية العظمى من الناس تبدو مثل القُصّر الذين لم يتمالكوا أنفسهم بعد، أو مثل البكم الذين لا يستطيعون أن يفصحوا عن الحوار الذين يجرونه مع الطبيعة. ما من إنسان لا يتوقع منفعة حسية من الشمس والنجوم، والأرض والماء. إنها قائمة من أجل أن تقدم له خدمة معينة، لكن هناك عائق ما أو فائض في أجسامنا يحول دونها ودون إحداث الأثر المستحق إن انطباعات الطبيعة تسقط علينا واهية جدا إلى الحد الذي لا يكفي لجعلنا فنانين ينبغي لكل لمسة أن تهزنا. وينبغي لكل إنسان أن يكون فنانًا إلى الحد الذي يستطيع فيه أن ينقل بالحوار ماحل به. ولكن نعلم بالتجربة أن الأشعة لديها مايكفي من القوة للوصول إلى الحواس، لكنها غير كافية لبلوغ الصميم وحمله على إعادة تقديمها في شكل كلام. الشاعر هو الذي تتوازن فيه هذه القوى، الإنسان الذي لا يشكو العوز، الذي يرى ما يحلم به الآخرون، ويجوس كامل مدى التجربة، ويمثل الإنسان، من حيث كونه القدرة الأكبر على التلقي والإفصاح.

إن علامة الشاعر وأوراق اعتماده هي أنه يعلن مالم يسبق لإنسان آخر التنبؤ به. إنه الطبيب الحقيقي والوحيد، فهو يعرف ويقول، إنه ناقل الأخبار الوحيد، لأنه كان موجودا وشاهدا على ظهور ما يصف. إنه مبصر الأفكار والناطق بما هو ضروري ومُسبّب. لأننا لا نتحدث عن أشخاص ذوي مواهب شعرية، أو عن الصنعة والمهارة في الأوزان، إنما عن الشاعر الحق. شاركت في حوار يتعلق بأحد كتاب الأغاني المحدثين، وهو رجل ذو عقل بارع، ورأس كما لو أنه صندوق موسيقي ضخم يضم ألحانًا ونغمات عذبة. ومهارة وسيطرة على اللغة لا يستطيع الإطراء أن يوفيهما حقهما، ولكن عندما نطرح السؤال عما إذا كان مجرد كاتب أغان، أو شاعرًا، كنا مضطرين إلى الاعتراف بأنه رجل معاصر، لا خالد. إنه لا يقف خارج محدوديتنا، مثل (تشيمبورازو) منطلق من قاعدة عبر جميع مناخات العالم، مزنر بكلأ كل خطوط العرض حول جوانبه العالية والمرقشة، إنما هو حديقة جميلة في منزل معاصر، تزينها النافورات والتماثيل، ويجلس أو يقف في ممراتها ودكاكينها رجال مهذبون ونساء مهذبات، نستمع من خلال كل الموسيقى المتنوعة، إلى إيقاع الحياة التقليدية، إن شعراءنا رجال موهوبون يغنون، وليسوا بأبناء الموسيقى. الفحوى لديهم ثانوية، وصقل الأبيات يأتي أولا.

إن ما يصنع القصيدة هو المعنى والفحوى التي تصوغ الوزن لا الوزن نفسه، الفكرة الحية والمنفعلة إلى الحد الذي يجعلها مثل روح النبات أو الحيوان تمتلك معمارها الخاص بها، وتزين الطبيعة بإضافة جديدة. تتساوى الفكرة والشكل في الترتيب الزمني، لكن الفكرة تتقدم على الشكل في الترتيب الخلقي، لدى الشاعر فكرة جديدة، لديه تجربة جديدة كاملة مهيأة للكشف، ولسوف يحدثنا عنها، ويزداد جميع الناس من ثروته غنىً. لأن تجربة كل عصر جديد تحتاج إلى اعتراف جديد، ويبدو أن العالم على الدوام في حالة انتظار شاعره.

عادات الشاعر الحياتية ينبغي أن تضبط عند مفاتيح منخفضة إلى الحد الذي يسمح للمؤثرات العادية أن تبهجه. على سروره أن يكون هبة نور الشمس، وينبغي أن يكون الهواء كافيا لإلهامه، وعليه أن يثمل بالماء. هذه الروح التي ترضي القلوب الهادئة، والتي تحل عليها من كل هضبة جافة يذوي عليها العشب، وكل أجمة صنوبر أو حجر نصف دفين تشرق عليه شمس آذار الكدرة، تنزل على الفقراء والجياع وعلى أصحاب الذوق البسيط. فإذا ملأت ذهنك ببوسطن ونيويورك، وبالموضة و الإشتهاء، وعمدت إلى تحفيز حواسك المتخمة بالخمرة والقهوة الفرنسية، فإنك لن تعثر على الإشعاع أو الحكمة في عزلة الغابات الصنوبرية.