في سفره الأخير، السفر الذي كتبه بوثيوس في عزاء الفلسفة وهو في السجن.. يجري بوثيوس آراءه على لسان حوار بينه وبين (الفلسفة) يومَ تصورها سيدةً وحاورها، أنقل هنا بعض ما أورده حول ثلاثة محاور هي الشهرة والسعادة والحظ.

المجد والشهرة

“فإذا ما حسبت أن الحياة يمكن أن تطول بدوام الشهرة أو بقاء الذكر

فسوف يأتي اليوم الذي تقبر فيه شهرتك أيضا

هناك يكون بانتظارك موت ثان”

أما الشهرة فمجيئها في الأغلب اعتباطي، وبقاؤها غير مضمون. والأغلب أن تكون زائفة يكتسبها غير أهلها من خلال الآراء الزائفة للدهماء، ثم تنهكه في محاولة الحفاظ عليها. وما قيمتها عندما ينتهي المرء إلى الموت الذي هو نهاية كل شيء. وكم هي هزيلة في كل حال، ولا وزن لها. فهمها امتد صيتك في الأرض، ودوى في التاريخ فإنه صفر حينما يقاس إلى نهاية الإمكان. وصفر حين يقاس بأبدية الزمان.

الشهرة؟ الأضواء؟  إنها البرص الذي يهرب منه الفيلسوف والعهر الرخيص الذي يتأفف منه كل من أحصنته الحقيقة.

لماذا يسعى إليها عظماء الرجال؟ لماذا يسعون إلى المجد والشهرة؟ ماذا يهمهم من أمر السمعة عندما ينتهي الجسد إلى الموت الذي هو نهاية كل شيء؟ فإذا كان الفناء مقدرا على الإنسان كله جسدا وروحا -وهو ما ينهانا عقلنا عن اعتقاده- فالشهرة لا شيء مادام الإنسان الذي يقال أنه حازها لم يعد موجودًا. أما إذا كانت الروح واعية بعد تحررها من سجنها الأرضي وتهفو إلى السماء، فلسوف تزدري كل شأن أرضي، مبتهجة بالسماء، سعيدة بانعتاقها من هذا العالم. “

لذات الجسد

“وماذا أقول عن لذة الجسد؟ إن السعي إليها محفوف بالهم، والشبع منها مملوءٌ بالندم. كم أورثت أجساد المتهالكين عليها من أسقام وتباريح، وكأنها ضرب من عقاب الإثم. أي سعادة في الشهوات إذا كان الأسى هو نهاية اللذة؟ يعرف ذلك كل من يتجشم استعادة ذكرى انغماساته.

وربما يكون مرد الكآبة التي تعانيها الكائنات عقب قضاء الوطر هو إحساس الكائن بأنه خدع، بأنه بُخس، بأنه استدرج. لكأن الطبيعة كانت تقضي به مأربها لا مأربه.

المكيدة الكامنة في صلب الحياة هي أن لذة الإشباع تأتي دائما أقل بكثير مما وعدنا به الجوع!

تأمل السماء إذا، تأمل قبة السماء اللانهائية المرصعة بالنجوم. ثم جرب أن تسلك شؤونك وشجونك في هذا السياق الكوني الكبير. وأن تنظر إليها بعين الفلك الدوار. ستدرك على الفور أنها أضحوكة وأنها أهون عليك وعلى الكون من أن توزن، ثم تململ وانفضها عنك كما تنفض هباءة، واستأنف وجدك بهذا الملك العريض.”

الحظ

“ما الذي رمى بك، أيهذا الإنسان الفاني، في مستنقع الحزن والقنوط؟ لعلك أخذت على حين غرة. ولكنك تخطيء أيها الإنسان إن ظننت أن الحظ قد أدار لك ظهرك. فالتغير هو طبيعة الحظ ودأبه وديدنه. وهو في تقلبه نفسه إزاءك إنما كان حافظا لعهده وثابتا على مبدئه. وهو ذات العهد وعين المبدأ الذي كان من قبل يتملقك ويغويك بسعادة زائفة. هل تقدر ذلك الصنف من السعادة المحتومة الزوال؟ وهل يعز عليك حظ تعلم أنه بقاءه موضع شك، وأن زواله يورث الحزن؟ فإذا كان المرء لا يملك التحكم في حظه وفق إرادته، وإذا كان زواله يترك وراءه البؤس. فماذا عساه أن يكون هذا الشيء الرواغ سوى نذير بشؤم قادم؟ إن العاقل لا يقنع بالنظر إلى ما هو أمام عينيه، فالحصافة تقدر عواقب الأشياء، والعبرة بالخواتيم. إن تقلب الأحوال نفسها بين عسر ويسر ليجرد الحظ من سلاحه، فلا تعود تهديداته تخيف، ولا ابتسامته تغري.

وأخيرا فما دمت قد انحنيت للحظ ووضعت عنقك تحت نيره، فإن عليك أن تتحمل بجأش ثابت. كل ما يحدث في ملعب الحظ. وإذا كنت اخترت الحظ بملء حريتك ليكون سيدا لك مُسيّرا لحياتك، فمن الخطل بعد ذلك أن تملي عليه قاعدة تحكم مجيئه وذهابه. وإن لهفتك نفسها سوف تزيد مرارةَ أي نصيب لك لا تملك تبديله.

إنك إن أسلمت شراعك للريح فسوف تدفع بقاربك إلى حيث تشاء هي لا إلى حيث تشاء أنت. وإذا أنت أودعت بذورك الأرض فسوف توازن ما بين سنوات الرخاء وسنوات القحط. وما دمت الآن قد أسلمت نفسك للحظ فعليك أن تخضع لأحكامه. أتريد حقًا أن توقف دولاب الحظ عن الدوران؟ ألا تعلم، يا أشد الفانين حمقًا، أن الحظ إذا بدأ في التوقف لا يعود حظًا؟ ”

السعادة

” لا أحتمل ترددك وإغراقك في التحسر على ما فاتك من أسباب السعادة. فمن الذي اكتمل حظه من السعادة فلم يدع له سببا للشكوى؟ إن هناء الإنسان هو بطبيعته أمر قلق محفوف بالاضطراب: فهو إما هناء غير مكتمل وإما هناء غير دائم.  تذكر أيضا أن أولئك الأوفر حظا من السعادة يكونون مفرطي الحساسية: فمن حيث إنهم لم يوطنوا النفس على معايشة المحن تراهم، إن لم يجر كل أمر وفق هواهم، يسقطون لأقل محنة وينهارون لأهون سبب، وبوسع أهون المصاعب أن تحرمهم من أن يخبروا السعادة بملء القلب.

ترى كم من الناس يعد نفسه متقلبا في نعيم الجنة لو أنه حظي بمعشار ما تبقى لك الآن من نعيم؟ هذا المكان نفسه الذي هو منفى بالنسبة لك هو وطن بالنسبة لقاطنيه. ليس شقاءً إذن إلا ما تعده أنت كذلك. والعكس أيضا: كل قدر هو قدر سعيد أنك تلقيته بثبات ورباطة جأش. لم يبلغ أحد قط من السعادة حدا لا يتمنى معه، إذا ما استسلم للقنوط أن يغير حاله. ألا ما أشد المرارة التي تمتزج بحلاوة الحياة. فرغم أنها تبدو ممتعة لذائقها، فإنه لا يمكنه استبقاؤها إذا هي آذنت بالزوال. ألا ما أبأسها تلك السعادة التي تأتي من حطام الدنيا: فلا هي تدوم للعاقل، ولاهي تقنع الأحمق.”

منقول من كتاب: عزاء الفلسفة لـ بوثيوس ترجمة : د. عادل مصطفى، دار رؤية.