في كتابه: يوميات كاتب يسأل دستويفسكي سؤالا مثيرا يقول فيه: ماذا لو انهالت المعارف الإنسانية انهيالا مُفاجئا، والأهم بلامقابل، على شكل هدية؟ ويجيب:
مالذي سيحدث؟ إنني أسأل، مالذي سيحدث للناس حينئذ؟ أوه بالطبع، بادئ ذي بدء، سيتهللون ابتهاجا، وسيتعانقون بنشوة، و سيندفعون لدراسة الاكتشافات (وهذا سيتغرق وقتا) وسيشعرون فجأة بأنهم مغمورون بالسعادة، إذا جاز التعبير، ومطمورون بالخيرات المادية، ولربما سيسيرون أو يطيرون في الجو، قاطعين في الجو مسافات هائلة بسرعة تفوق سرعة القطارات الحالية بعشرة أمثال، وسيجنون من الأرض محاصيل خرافية، ولربما أنشأوا كيميائيا كائناتٍ عضوية، فأصبح اللحم كافيا ليكون نصيب كل فرد منه ثلاثة أرطال كما يحلم اشتراكيونا الروس، أي باختصار: كل واشرب وتلذذ. و سيصيح أهل البر والإحسان كافة: ((الآن، بعد أن أصبح الإنسان مكتفيا، الآن فقط، ستظهر قدراته! فقد زال الحرمان المادي، وزال الوسط الخانق، الذي كان سببا لكل العيوب، وسيغدو الإنسان الآن رائعا وبارا. لم يعد هناك كدح مستمر ليقتات الإنسان كيفما كان، والجميع الآن سيهتمون للأمور السامية والأفكار العميقة والظواهر العامة الشاملة، الآن فقط حلّت الحياة الأسمى. ولربما صاح هذا، بصوت واحد، أناس أذكياء وجيدون، وقد يجعلون الجميع يتبعونهم متعجبين من هذا الجديد، ويرفع الجميع أصواتهم أخيرا في نشيد عام: ((من يشبه هذا الوحش؟ سبحانه إنه ينزل لنا النار من السماء)).
ولكن لا أظن أن هذه التهليلات الابتهاجية ستكفي لجيل واحد من الناس، سيرى الناس فجأة أنه لم تعد لديهم حياة، ولا حرية روحية، ولا إرادة ولا شخصية، وأن أحدًا ما قد سرق منهم كل هذا دفعة واحدة، وأن الصورة الإنسانية قد اختفت، وحلت محلها صورة العبد البهيمية، صورة البهيمة، مع فارقٍ واحد هو أن البهيمة لاتعرف أنها بهيمة، أما الإنسان فسيعرف أنه أصبح بهيمة! وسيدُب التفسخ في البشرية، وتتغطى أجساد الناس بالقروح، وسيعضون على ألسنتهم من الوجع، ويرون أن الحياة انتزعت منهم لقاء الخبز، لقاء (أحجار حولت إلى أرغفة). وسيدرك الناس أن لا سعادة بدون عمل، وأن الذهن الذي لايعمل ينطفئ، وأن المرء لا يمكن أن يحب قريبه إذا لم يضح له بشيء اكتسبه بكده. وأن العيش بالمجان خساسة، وأن السعادة ليست في السعادة، بل هي في التوصل إلى السعادة. إذ سيحل الملل والحنين: فقد أنجز كل شيء، ولم يعد ما يمكن فعله. وعُرف كل شيء، ولم يعد مايمكن معرفته. وسيظهر المنتحرون أفواجا، وليس خلسة كما الآن. الناس سيتجمهرون في حشود غفيرة، بعضهم ممسك بأيدي بعض، ويبيدون أنفسهم فجأو بالآلآف بطريقة ما جديدة، اكتشفوها هم بأنفسهم فيما اكتشفوه، وربما عندئذ يتوجه الباقون إلى الخالق صائحين: (أنت على حق ياربنا، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان).